العدد 2284 - السبت 06 ديسمبر 2008م الموافق 07 ذي الحجة 1429هـ

قطر والاستثمار في البشر

عبدالحسن بوحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قرأت عن مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، ولكن القراءة شيء والمعاينة شيء آخر. فضمن وفد ضم شخصيات من عدة دول أتيحت لي فرصة زيارة هذا الصرح العلمي الكبير فآثرت مشاركة القارئ بمشاهداتي عن هذه التجربة الخليجية الوليده. لن اتطرق هنا إلى التنمية الشاملة التي تشهدها قطر، ولا عن دورها الفعال على الجانب السياسي وخاصة فيما يتعلق بحلحلة الازمه اللبنانية بجمع اطرافها في الدوحة، ولا عن دعمها السخي لإعمار ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية في لبنان، بل سأكتفي هنا بالتطرق لسياسة التنمية البشرية التي تبنتها هذه الدولة الشقيقة في خيار استراتيجي بعيد المدى يعكس حكمة وادراكا بأن ضمان العيش في المستقبل يكمن في تحويل عائدات النفط الى اقتصاد معرفي، ومهارات بشرية، ولا يقتصر على تشييد العمارات الشاهقة والمدن الحديثة لقاطنين من خارج الوطن.

من هذا المنطلق انشأت مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع في العام 1995 وأسندت رئاستها إلى حرم سمو أمير قطر تعبيرا عن الأهمية التي توليها الدولة لهذا المرفق الحيوي الذي حددت اهدافه في ما يلي:

-إنشاء شبكة من مراكز التعليم المتميزة في مجال العلوم والبحوث وتنمية المجتمع بالشراكة مع مؤسسات تعليمية عالمية مرموقة.

-إنشاء مدينة تعليمية قل نظيرها تكون ملتقى للعلوم وطرق تطبيقاته العملية.

وتتكون المؤسسة من مجموعة من المراكز التعليمية المتنوعة. فهناك اكاديمية قطر للتعليم المتطور التي تهدف الى تهيئة الطلبة للتعليم الجامعي، وهناك مراكز التعليم لسد الفجوة والمساعدة على العبور نحو التعليم العالي المتطور. وتضم المؤسسة التي بنيت على مساحة شاسعة من الأرض مجموعة من الجامعات الأميركية المرموقة منها جامعة فرجينيا كومن وليث للآداب والفنون، وجامعة ويل كورينل للطب، وجامعة تكساس أند إم للهندسة، وجامعة كارنجي مليون لإدارة الأعمال والحاسوب، وجامعة جورج تون للسياسات الدولية، وجامعة نورث وسترن للصحافة والاتصالات، وكلية الدراسات الإسلامية التي يتم تطوير مناهجها محليا بالتركيز على المبادئ الإسلامية الداعية للتعايش والتسامح، وعلى الفقه المقارن.

وبالنظر الى تكوين المؤسسة يلاحظ التنوع والشمول والتخصص في برامجها العلمية دون التضحية بالجودة. فالتميز هدف اساسي لجودة المخرجات. وفي مجال البحوث الذي يعتبر اساسا للتطور والمعرفة، فقد خصصت حكومة قطر موازنة سنوية تزيد على البليون دولار، وعملت على ربط هذه الأنشطة بالشركات العامة في مجالات النفط والغاز والمياه.

وتملك المؤسسة مقرا بمساحة 600,000 متر مربع يضم منطقة حرة وحاضنة للأعمال لتنمية الاستثمار وخلق فرص العمل، ومكاتب لشركات عالمية مشهورة كشركه شل ومايكروسفت واكسون موبيل، وتوتال، وروز رويز.

وبالإضافة إلى كلية كورينل للطب تعمل المؤسسة على انشاء مركز سدرا للبحوث الطبية يضم 348 سريرا ويعمل بالتنسيق مع مؤسسة حمد الطبية، ومن المتوقع افتتاحه في العام 2011.

وفي مجال العلوم السياسية الدولية هناك مؤسسة راند قطر للعلوم السياسية من مهامها إجراء البحوث في مجالات السياسة الدولية ودول مجلس التعاون، كما تعمل على تطوير نظم التعليم والصحة.

وفي مجال التنمية الاجتماعية تضم المؤسسة دارا للانماء الاجتماعي تنفذ برامج وانشطة محلية وعالمية. اما في مجال الإعلام فقد انشأت المؤسسة قناة الجزيرة للأطفال ووضعت برامج لتنمية مهاراتهم في مجال الحوار وطرق اتخاذ القرار، وأسست برامج تلفزيونية تمكنهم من الاتصال المباشر بأصحاب القرار من خلال الحوار المباشر بغرض تنمية روح الانتماء والمواطنة وتحمل المسئولية.

هذه نبذة مختصرة عن صرح علمي يتم تطويره بهدوء في دولة قطر الشقيقة. انها حقا تجربة فريدة جديرة بالدراسة والاهتمام لكونها مبنية على استراتيجية وطنية بعيدة المدى هدفها هو الإنسان الذي يمكن تحويله إلى ثروة وطنية دائمة باستثمار عائدات النفط المعرضة للتذبذب وللنضوب يوما ما.

لقد اختارت دولة قطر منهجا جديدا جمعت فيه ريادة الدولة ومشاركة مؤسسات خاصة عالمية لتضمن الجودة لمخرجات التعليم وذلك خلافا لنمط التعليم التجاري الذي تنفذه بعض الدكاكين المنتشرة، والتي تطلق على نفسها جامعات خاصة، لا هم لها سوى تحصيل الرسوم وطبع الشهادات لأكبر عدد لكي تمتلئ سوق العمل بشباب يرفض العمل المنتج ومعلقا آماله الكبيرة على شهادات خاوية المضمون وتثار الأقاويل والشكوك بشأن جودتها من قبل بعض دول الجوار.

قد يجادل البعض ان حجم المؤسسة التعليمية في قطر وطاقتها الاستيعابية تفوق ديمغرافية البلد، وهذا صحيح، الا ان التعليم المتميز لن يكون محصورا في رقعته الجغرافية المحدودة بل يمكن ان يمتد ليشمل المنطقة بأسرها.

وفي مملكة البحرين لدينا خطة طموحه لإصلاح التعليم تبناها مجلس التنمية الاقتصادية بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، وهي بمثابة حجر في ماء راكد يحرك الماء لفترة، ولكنه يفقد زخمه بعد ان يستقر في القاع وذلك في غياب الاستراتيجية الشاملة المتفق عليها من قبل جميع الأطراف المعنية. فوتيرة اصلاح التعليم محكومة بالإضافة الى ذلك بعاملين هما توفر الموارد المالية، وحيوية وكفاءة أجهزة التنفيذ. فإذا كانت بيئة التنفيذ قد اصابها داء الشيخوخة وابتليت بإرث الماضي وبواقع سياسي مستجد ومتشابك في درجة تعقيده، فإن إصلاح التعليم لن يكون بطيئا فقط بل سيتحول إلى جهد مكرر على غرار ما سبقته من جهود.

من جهة اخرى فقد تبنت دولة قطر، في لفتة جديرة بالاهتمام، قدرا معقولا من اللامركزية في ادارة التعليم العالي واتاحت الفرصة لمؤسسات عالمية مرموقة لنقل خبراتها المتراكمة ضمن معايير حددتها بنفسها لضمان جودة المخرجات. فإذا كانت معايير انشاء المؤسسات التعليمية لدينا ضعيفة، او يتم تجاهل تطبيقها، فلا غرو من انتشار ظاهرة توزيع الصكوك الجامعية التي لا تمنح المهارات ولا ترقى بمستوى العقل.

ان نجاح استراتيجية اصلاح التعليم يعتمد على اصلاح مؤسساته ومن بينها وزارة التربية والتعليم التي هي في امس الحاجة للهندرة التي يتحدث عنها هذه الأيام ديوان الخدمة المدنية، الا ان أية استراتيجية طموحة للإصلاح لا تستوعب ممارسة توريث المناصب او حصرها في نمط أحادي قد تتعارض توجهاته مع اهداف الاصلاح.

ان تجربة قطر جديرة بالاهتمام، وهناك تجارب أخرى مماثلة ناجحة جديرة بالتأمل، وبالنظر الى محدودية مواردنا فإننا أحوج من غيرنا للتعلم من هذه التجارب لتحويل ما نملكه من ثروة طبيعية محدودة إلى امكانيات بشرية منتجة ودائمة. فهل لنا من مراجعة لبعض قناعاتنا؟

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"

العدد 2284 - السبت 06 ديسمبر 2008م الموافق 07 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً