العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ

آيرول فلين: جاسوس نازي مغامر أم مجرد كاره لأميركا؟

فتى أحلام المعجبين في الأربعينيات يتقلب بين هتلر وفرانكو وكاسترو

آيرول فلين اسم قد يكون منسيا بعض الشيء في هذه الأيام. ولكن في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كان هذا الممثل من أشهر نجوم السينما في العالم. صحيح أنه لم يكن أبدا على مقدرة جاك نيكلسون أو روبرت دي نيرو، لكنه كان على شهرة توم كروز وجوني ديب وهارسون فورد مجتمعين. كانت الفتيات يعشقنه، والشبان يقلدونه. وكانت أفلامه تشاهد من قبل مئات الملايين في شتى أنحاء العالم. وكمثل أبناء طينته من كبار الهوليووديين في ذلك الحين، كان آيرول فلين يعيش حياة صاخبة مليئة بالمغامرات والنساء، وهذا كله كان معروفا، وكان يشكل جزءا من شخصية وأسطورة ذاك الذي أطلق عليه لقب «روبن هود الشاشة» تيمنا بأشهر دور لعبه. لكنه لم يكن الدور الوحيد، إذ بين العام 1933 (عام بداياته السينمائية وانتقاله من قارة اوقيانيا التي ولد فيها) والعام 1959 عام رحيله الصاخب، لعب آيرول فلين عشرات الأدوار في عشرات الأفلام، من «ثورة على السفينة بونتي» إلى «فتيات كوبا الثائرات»، ومن «دايف بومبر» إلى «آل فورسايت»، ومن «الضوء الأخضر» إلى «مغامرات روبن هود» و «اسطنبول» و «الشمس تشرق ثانية».

لعب فلين كل الأدوار. وأحب كل النساء. وخاض كل المغامرات. وعرف عنه جمهور الموله كل أسراره... ومع هذا ظلت أمور كثيرة غامضة، راحت تنكشف أمام دهشة الجمهور، بعد موته، ولعل أهمها عمله إلى جانب النازيين عشية الحرب العالمية الثانية، ومناصرته فرانكو وتهريبه الجواسيس الألمان من أميركا، وأغربها وقوفه إلى جانب الزعيم الكوبي فيدل كاسترو بعدما حاول اغتياله في خطة لم تنفذ. وهنا إطلالة على هذا كله.

تحقيقات إف. بي. آي

في العام 1942، كانت الحرب العالمية الثانية في ذروة اشتعالها. وفي الوقت نفسه كانت حرب النفوذ مستعرة بين الكثير من الأطراف. وكان همُّ أجهزة الاستخبارات الأميركية في ذلك الحين أن تبعث موفدين إلى عدد من الدول الأوروبية وغير الأوروبية بغية اجتذاب مسئوليها إلى جانب مواقف واشنطن تسهيلا للمهمات التالية - على الصعيد العالمي - للجيوش الأميركية التي كان الاستعداد قد بدأ لإرسالها إلى أوروبا من أجل توجيه الضربة القاضية إلى النازيين.

يومها اقترح رئيس جهاز مكافحة التجسس الأميركي بيل دونفان إرسال آيرول فلين إلى ايرلندا، بوصفه ممثلا للجهاز، لكي يجتذب الرئيس الايرلندي دي فاليرا، المتردد، إلى جانب الأميركيين. وفي اللحظة التي بدا فيها على الرئيس روزفلت أن الاقتراح يروقه، لإعجابه بفلين، ولصداقة هذا الأخير مع زوجته، صرخ ادغار هوفر، مدير إف. بي. آي، وكان حاضرا: «فلين! إنه ليس أكثر من عميل نازي». وعلى الفور تراجع روزفلت وطوي الموضوع.

غير أن حكاية هوفر مع فلين لم تنته. فهوفر كان، ومنذ زمن على قناعة بأن الممثل الشهير، و «كازانوفا» هوليوود من دون منازع، كان يعمل لمصلحة استخبارات الجيش النازي منذ العام 1933. وكانت المعلومات التي في حوزة هوفر تقول إن علاقة فلين بالنازيين تعود إلى الوقت الذي كان فيه نجم هوليوود يصور في غينيا الجديدة فيلما تسجيليا عن قاطعي الرؤوس. وهناك التقى، في ظروف غامضة بعض الشيء طبيبا نمسويا متخصصا في الأمراض الاستوائية يدعى هرمان اربن. ومناسبة اللقاء حادث اصطدام كاد يغرق مركب فلين ويقتله لولا أن الطبيب أنقذه. وارتبط الاثنان مذاك بصداقة - كان يحلو لهوفر أن يقول إنها كانت أكثر من صداقة: كانت عشقا متبادلا «بين شاذين» بحسب تعبيره. ولقد أسفرت الصداقة عن تمويل اربن، الذي كان ثريا، لفيلم صور في أستراليا بعنوان «متمردو السفينة بونتي»، وقام ببطولته فلين نفسه.

كان اربن معروفا بارتباطه بالاستخبارات النازية هو الذي كان قدم إلى الولايات المتحدة، لاجئا سياسيا في سنوات العشرين وحصل على الجنسية الأميركية على رغم أن تقارير إف. بي. آي، كانت تؤكد أنه كان المفصل المحرك للعملاء النازيين في أميركا. وكان هوفر، على رغم افتقاره إلى البراهين، واثقا من أن فلين يعمل بالتضامن مع اربن، وخصوصا أن الاثنين سافرا معا إلى إسبانيا في العام 1937، ليشاركا، تجسسا ودعاية، في حربها الأهلية إلى جانب جماعة فرانكو المدعومين من هتلر.

إزاء هذا كله، إضافة إلى عدد من التقارير السرية التي تدين اربن بكل وضوح وتلقي الشبهات بشأن فلين، حدث في العام 1940، وأثناء تصوير هذا الأخير لدوره في فيلم «نسر البحار» أن استدعي لكي يحقق معه رجال إف. بي. آي. ولقد جرى التحقيق يومها، على الشكل الآتي (كما يقول كاتب سيرة فلين، تشارلز هايام):

المحقق: هل تعرف الدكتور اربن؟

فلين: أجل أعرفه، وهو يحظى بأسمى درجات احترامي وتقديري...

المحقق: منذ كم من الوقت تعرفه؟

فلين: منذ نحو عشر سنوات. لقد تجولنا معا حول العالم.

المحقق: أين التقيته للمرة الأولى؟

فلين: في غينيا الجديدة، حيث كان على رأس بعثة تعمل لحساب مؤسسة روكفلر. هناك شاهدته يعمل 24 ساعة في اليوم من دون توقف. لقد كان إنسانا رائعا.

المحقق: ما رأيك فيه؟

فلين: إنه ذو عقل لامع، وهو طبيب ممتاز. لكنه ينتمي إلى ذلك النمط من الناس الذين يبذلون كل ما لديهم من جهد لكي يجعلوا الآخرين يعتقدون أنهم جواسيس. إن لديه ميلا إلى إثارة المشكلات من حوله.

المحقق: وما هي آراؤه السياسية الخاصة؟

فلين: إنه شديد العداء للنازية وللشيوعية معا. وتبعا لما أعرفه عن سوابقه، لا أعتقد أن في وسعه الآن أن يكون نازيا متحمسا. عندي رسائل منه يمكنني إيصالها إليكم ويمكنكم درسها. وهنا يمكنني أن أؤكد لكم أنني اتصلت بالسيدة روزفلت لكي تبذل جهودها من أجل مساعدة إربن.

بعد أسابيع على هذا التحقيق تبين للمحقق أنه لن يحصل على أية رسائل. أما إربن الذي كان أجهزة إف. بي. أي. كلها تبحث عنه فقد تمكن من الإفلات والهرب إلى المكسيك. ولاحقا سيقول شخص شاطر إربن زنزانة سجن إنجليزي في شانغهاي في العام 1944، إن فلين هو الذي هرب إربن بنفسه على متن يخته سيروكو إلى الجارة الجنوبية للولايات المتحدة.

هذا ما كان من شأن إربن. أما فلين فإنه بقي طليقا من دون أن يعرف أحد كيف. فهل كان حقا يعمل لمصلحة النازيين، كما تقول كتب عدة؟ أم أنه كان مجرد مغامر آفاق يخوض الصعاب من دون أن يحترز؟

إن هذا السؤال يبقى من دون جواب قاطع. ومع هذا، ومنذ وصوله من مسقط رأسه تاسمانيا، جنوب أستراليا، إلى هوليوود، كان فلين لا يكف عن إبداء آراء عنصرية ومعادية للسامية، بحيث أن عارفيه كانوا يقولون عنه إنه، قادر على أن يرتبط بصداقة مع أي شخص يتبنى الفلسفة النازية. كما أنه كان يحب النظام وفكرة أن العقل السليم في الجسد السليم. ويشعر بالراحة عندما يرتدي الزي العسكري. وكان يقرأ نيتشه بشغف، ويهوى الرومانسية وموسيقى فاغنر. غير أن هذا كله لا يمكنه أن يصنع منه نازيا. لذلك راح الباحثون ينقبون، وهم خلال تنقيبهم تبين لهم أن إربن لم يكن الصديق النازي الوحيد الذي يرتبط فلين به. كان هناك آخرون، من بينهم اغناطيوس تريبتش المجري المولد، كان من كبار المؤثرين على هتلر طوال فترة تكون هذا الأخير نازيا. والغريب أن تريبتش ظهر ذات مرة في الولايات المتحدة إذ انضم إلى إف. بي. آي. التي أرسلته من جديد إلى برلين لكي يتقرب من هتلر. إن حياة تريبتش تظل غامضة، غموض مقتله في طوكيو العام 1943 حيث عثر على جثته مصابة بطعنات قاتلة.

فكيف كانت علاقة فلين به؟ من جديد نرانا أمام غموض وتراكم أسئلة محيرة حول نجم هوليوود. وهذا التراكم يمكن أيضا تعزيزه من خلال أسماء أخرى، ارتبطت كلها بشخص فلين منذ أواسط الثلاثينات حتى أواسط الحرب العالمية الثانية: مثل فريدي ماكيوفوي، الذي كان صديق طفولة لفلين في سيدني، ثم أصبح مسئولا رياضيا إنجليزيا شارك في الألعاب الأولمبية العام 1936، وارتبط في برلين - مكان إقامة تلك الألعاب - بعلاقات قوية مع المسئولين النازيين، ثم صار جاسوسا لهم. ومثل فريتز فايدرمان، القنصل الألماني العام في سان فرانسيسكو، الذي تعرف عليه فلين العام 1939. ومساعد فايدرمان، ماكس كارمل الذي كان رئيسا للشرطة الفاشية في غواتيمالا واضطر إلى الهرب إثر ثورة هناك، ليتحول إلى مهرّب أسلحة وعميل نازي. ومثل غرترود أندرسون المغنية السويدية الأصل التي كانت ترتبط بعلاقات قوية في برلين. وكانت الاستخبارات الأميركية تسعى للحصول على أدلة تمكنها من الإمساك بها، من دون جدوى، وخصوصا بعدما أصبحت عشيقة لفلين. ونذكر هنا أن غرترود اختفت تماما بعد ضرب اليابانيين لبيرل هاربور. ويعتقد أنها هربت - على يخت فلين أيضا - إلى المكسيك.

فهل يمكن هنا التوقف بعض الشيء عند أحداث بيرل هاربور للتساؤل عن سبب هرب الكثير من أصدقاء فلين، من الولايات المتحدة، بعد حصولها. وعما إذا كان يمكن أن تكون لها علاقة في ما نتحدث عنه هنا، أي في نشاطات فلين؟ هنا أيضا ليس هناك أي برهان قاطع ومحسوس. ولكن قد يكفينا أن نقرأ هذا المقطع من شهادة أدلى بها منتج فيلم «دايف بومبر» روبرت لورد الذي لعب لين دور البطولة فيه، وتم تصويره مباشرة خلال الشهور الماضية لضرب اليابانيين بيرل هاربور. يقول لورد في شهاته: «أنا لا أريد أبدا لهذا التصريح أن ينشر قبل موتي. والذي أريد قوله هنا هو أننا خلال إعدادنا لتوزيع الفيلم، قبل عروضه الرسمية، استخدمنا عددا كبيرا من اللقطات لمرفأ بيرل هاربور، التي كان ايرول بنفسه قد التقطها من البر ومن الجو، وبناء على اقتراح تقدم به هو نفسه قائلا إن الغاية من الأمر هي تقديم صورة نصف وثائقية عن القوات الأميركية في المحيط الهادي. ويومها بعثنا بنسخة إلى ممثل شركتنا في اليابان، وكان ذلك عند نهاية صيف العام 1941. ومن نافل القول إن في إمكاننا هنا أن نفترض أن تلك الصور والمشاهد واللقطات قد درست بعناية فائقة من قبل هيئة الأركان اليابانية، وما لا شك فيه أنه كانت لها قيمة كبيرة في مجال وضع مخططاتهم للهجوم على بيرل هاربور. وإضافة إلى هذا يمكنني هنا أن أذكر كم يصدمني أن أفكر أن فلين نفسه كان هو الذي اقترح علينا أن نصور لقطات لقاعدة سان دييغو البحرية الأميركية، إضافة إلى تصوير فرق العمل وهي تنشط على حاملة الطائرات انتربرايز. وأنا أعتقد هنا أيضا أن اليابانيين درسوا هذه الصور جيدا ضمن إطار تفكيرهم بهجوم على كاليفورنيا».

إن هذا الكلام الذي يبوح به منتج أميركي عمل مع فلين طويلا، لا يمكن أيضا التأكد منه ولا البرهنة عليه. ولكن ألا يبدو غريبا في قدرته على الإقناع إذا ربطناه بعلاقات فلين المشبوهة، وبالدور الذي قام به خلال الحرب الإسبانية، وبتهريبه للمشتبه بهم، حالما تبدأ الاستخبارات الأميركية الشك بهم وملاحقتهم؟

مهما يكن من أمر لابد أن نشير هنا إلى أن المرحلة التي بلغ فيها «تعاون» فلين المفترض مع النازيين، أو مع أصدقائه المتعاونين مع النازيين مباشرة، ذروته، كانت مرحلة لاتزال الولايات المتحدة فيها، على الحياد بالنسبة إلى الحرب العالمية الثانية. ففي تلك المرحلة كان العملاء النازيون يملأون الولايات المتحدة ويجمعون المعلومات والتبرعات من دون أن يلاحقهم أحد. وفقط بعد مأساة بيرل هاربور تبدل كل شيء، وصارت العمالة للنازيين تهمة. وفي هذا الإطار يشكل شهر ديسمبر/ كانون الأول 1941 نقطة انعطافية. فابتداء من تلك اللحظة، صار فلين «مفيدا» لأصدقائه، أولا بفضل شهرته الهوليوودية التي كانت تؤمن له نوعا من الحماية، ثم بفضل صداقاته الكثيرة، ولاسيما صداقته للسيدة إليانور روزفلت، في كل ما يفعل، إنما يريد الخير للولايات المتحدة التي تبنته.

فهل كانت السيدة مقتنعة حقا بهذا.؟ أم أن كل ما في الأمر هو أن الإدارة الأميركية في علاقتها المعقدة بهوليوود كانت تعرف الحدود التي يمكن أن يتحرك فلين ضمنها، تاركة لها لمجال للتحرك، لرغبة منها في عدم الظهور كقوة لا شعبية إن هي ضايقته؟! إذ، بعد كل شيء، في ذلك الحين كان فلين نجم المغامرات الأكبر في السينما الأميركية. وربما هذا الواقع هو الذي دفع إلى اعتبار تصرفاته مجرد نزوات غير خطيرة تماما في فترة، كانت كما أشرنا، لاتزال هادئة في العلاقة بين واشنطن والنازيين. والحال أن حياة فلين كانت شديدة الامتلاء بالنزوات طوال الثلاثينيات التي بنى خلالها شهرته كنجم من طراز استثنائي. وحياة فلين، في تلك المرحلة، كانت حياة مغامرات عاطفية (مع الجنسين) وانكبابا المغامرات في أعالي البحار والتصرفات الغريبة. وكانت الصحف لا تتوقف عن الحديث عنه، وعن ملء أعمدتها بالإشاعات عنه. وبالنسبة إلى الخبراء لم يكن من المنطقي لشخص ذي نزوات من هذا النوع أن يكون عميلا حقيقيا لأي طرف. ربما كان يمكن أن تجتذبه مغامرة من هنا، أو صداقة من هناك، لكن هل كان من الممكن له أن يقوم بأي عمل سياسي منتظم وهو على ما هو عليه؟ مهما يكن فإن تشارلز هايام، الذي كان الأكثر قسوة عليه في كتابه عنه يقول في تقديمه للكتاب، وكمبرر له: «لقد كان فلين معبود شبابي وصباي. كان في وسعي أن أسامحه على أي شيء فعله، باستثناء واقع أن هذا الرجل الذي كان يجسد الوطنية على الشاشة، إنما كان في حقيقة أمره جاسوسا نازيا، متعاونا مع الهتلريين وخائنا لبريطانيا وأميركا»، وما فصول كتاب هايام العامرة بالمرارة في الوقت نفسه، سوى محاولة للبرهان على هذا.

على أية حال قد يكون مفيدا هنا أن نذكر أن فلين نفسه كتب سيرة حياته في ثلاثة مجلدات. وفي هذه الكتب، من الغريب أنه لم ينفِ أية تهمة وجهت ليه. بل إن في سرده لفصول حياته، فراغات وسنوات غائبة، من اللافت أنها تتلاءم مع السنوات التي يملأها هايام بالأحداث الغريبة التي يرويها. فهل معنى هذا أن فلين أراد أن يترك للأجيال اللاحقة إمكانية تصنيفه جاسوسا مغامرا، مضيفا بهذا عناصر أخرى إلى سيرة حياته الغريبة؟ إن هذا أمر ممكن، فالرجل كان غريب الأطوار.

ولعل حكايته مع كوبا، خلال العامين الأخيرين من حياته، توضح هذا الأمر بأفضل السبل. لقد أشرنا سابقا إلى أن فلين كان يحب النظام النازي، والدكتاتوريين إلى درجة أنه رافق صديقه إربن في مهمة مناصرة لجماعة فرانكو في إسبانيا، في وقت وقف فيه معظم المبدعين الأميركيين والإنجليز ضد فرانكو وإلى جانب الجمهوريين التقدميين. وفي هذا الإطار لا يبدو تأييده لهتلر غريبا. ولن تبدو غريبة أيضا تصرفاته في العام 1957 حين وقف مؤيدا باتيستا ديكتاتور كوبا، عندما اشتدت الثورة السياسية ضده بقيادة كاسترو. ويقول هايام، في هذا الصدد، إن فلين شارك في العام 1958، وبعد لقاءات مع باتيستا، وفي وقت كانت واشنطن تناصر كاسترو خفية ضد باتيستا، في الإعداد لمؤامرة تهدف إلى غتيال كاسترو. وكانت الخطة تقضي بدعوة الزعيم الثوري الكوبي الذي كان مولعا بهوليوود وأفلامها ونجومها في ذلك الحين، إلى رحلة صيد يتم خلالها قتل كاسترو على يد هاوارد هيل، صديق فلين الذي كان أبرع من استخدم القوس والنشاب في هوليوود. ولكن يبدو أن كاسترو تخلف في اللحظات الأخيرة ولم يتمكن فلين من تنفيذ خطته.

حتى هنا قد تبدو هذه الحكاية معقولة، فلماذا يا ترى حدث في العام التالي، العام 1959 الذي توفى فيه فلين عن خمسين عاما في ميناء فانكوفر، إذ قام قبل شهور من وفاته بتصرف يبدو متناقضا تماما مع التصرف الأول؟ فما هو هذا التصرف؟

في ذلك العام الذي رحل فيه، وبعد عام من «فشل مؤامرته لقتل كاسترو» توجه فلين إلى كوبا، التي كانت ثورة كاسترو انتصرت فيها كليا، وأعلن لزعيم الثورة ولاءه التام وتأييده المطلق. مذكرا إياه بأن الفيلم الذي كان مثّله لتوه - وسيكون فيلمه الأخير على أية حال - وهو «فتيات كوبا المتمردات» إنما هو تحية جلية للثورة وأبطالها. يومها حين سئل فلين عن سر لقائه مع كاسترو وولائه له قال: «لمرة واحدة حقيقية، قام في هذا العالم روبن هود صادق وحقيقي، فأردت أن ألتقي به وأقول له كم أن قلبي معه».

فهل كان هذا أيضا جزءا من شخصيته الغريبة؟ أو أن كل ما في الأمر، ومنذ البداية - كما سيقول لمحلل نفسي انكب لاحقا يدرس حالة فلين - إن هذا الرجل كان يكره الولايات المتحدة، كراهية أوديبية، كما كان يكره بريطانيا، وإن هذه الكراهية هي أساس دوافعه الحقيقية، إذ هو وقف دائما مع من هو أشد: من النازيين، إلى فرانكو، ومن اليابانيين، إلى باتيستا (حين بدأت واشنطن تتخلى عنه مفضلة عليه كاسترو) وصولا إلى كاسترو بعد أن أصبح العدو الرقم واحد لواشنطن؟

إنه تفسير قابل للبحث.

* قصة من كتاب «حكايات صيفية».

العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً