العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ

إنها تجارة... من فيتنام وأفغانستان إلى حقوق الإنسان

ثلاثة أفلام تتحدث عن الحروب والمخدرات والفساد

ثلاثة أفلام رائعة تعرض حاليا في البحرين. الأول يتحدث عن «عصابات أميركية» ظهرت في حي هارلم في مدينة نيويورك وقامت بترويج المخدرات في فترة امتدت من العام 1968 إلى العام 1975. والثاني فكاهي ولكنه يتحدث عن قضية ألهبت العالم ولاتزال وهي تلك الحرب التي اندلعت في أفغانستان بعد الغزو السوفياتي في العام 1979. والثالث يتناول موضوع تصنيع البذور واستخدامها في الزراعة وآثارها الجانبية على حياة البشر.

الأفلام الثلاثة تعطي فكرة عن مناخات ثقافية نقدية بدأت تنتشر في استوديوهات هوليوود وأخذت تتشجع على خوض موضوعات دقيقة وحساسة وخصوصا في مجالات كشف دور شركات الاحتكار والتسلح والأدوية وارتباطها بتجارة المخدرات وتوريط الشعوب في حروب عبثية تجلب الدمار والخراب للضعفاء وتزيد من ثروات الأغنياء.

الأشرطة الثلاثة مهمة للغاية وهي تحاكي بعضها بعضا على رغم انفصال الموضوعات. فالانفصال لا يلغي فكرة الاتصال. فالشريط الأول يؤرخ لنمو تجارة المخدرات في نهاية الستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي وارتباط التهريب بالحرب المندلعة في فيتنام. والثاني يؤرخ لتطور عناصر التدخل الأميركي في حرب أفغانستان من خلال دور رجل الكونغرس الذي قام بالتحريض والترويج لمسألة الدعم والتمويل والتسليح بذريعة مكافحة الشيوعية.

والثالث يفتح ملف شركات الأدوية وتصنيع البذور وخطرها على الصحة العامة من خلال سرد قصة محامٍ يلعب دور الوسيط في تسويق المنتوجات من خلال علاقاته الخاصة مع الشركات.

الأشرطة الثلاثة متجانسة إلى حد كبير في ربط الحرب بالمخدرات بشركات التصنيع الحربي وبالمؤسسات العلمية التي تعتمد سياسة البحوث في المختبرات لتطوير مواد مصنعة تضر بصحة الإنسان.

الشريط الأول (عصابات أميركية) يتناول قصة رجل أسود اكتشف مصادفة أن تجارة المخدرات تمر في قنوات تديرها عصابات أوروبية (إيطاليون، ايرلنديون) أو لاتينية (دول أميركا الجنوبية). هذا الشاب لاحظ أن مصادر الاتجار بالمادة المحرمة يمكن الحصول عليها من دون وسطاء بناء على موعظة سمعها من معلمه (الأب الروحي). وبناء على هذه القناعة توجه فورا إلى كمبوديا على حدود فيتنام حيث تقوم الجماعات المسلحة بزراعة الأفيون وتصنيعه جيدا وبسعر رخيص. ويتوصل الشاب إلى عقد صفقات مع قطاع الطرق تقضي بشراء المحصول وتصديره من خلال التعاون مع ضابط أميركي على المقلب الآخر من الحدود.

آنذاك كانت حرب فيتنام مستعرة. وكل يوم تسقط عشرات الضحايا. وجاءت الصفقة الثلاثية (المزارع، والمروج، والضابط) لتربط عناصر الشبكة في مصلحة واحدة. وهكذا بدأت البضاعة الجيدة والرخيصة تغزو أسواق نيويورك بإدارة شاب أسود لا يعرف عنه الكثير. ونجح الشاب في السيطرة على حي هارلم ثم امتدت شبكته لتغزو أسواق نيويورك وتعطل أنشطة العصابات الأخرى التي لم تكن على علم ودراية بمصدر هذه البضاعة الجيدة والرخيصة. وبسبب اتساع الشبكة وضعف العصابات على التنافس أخذ زعماء المجموعات في الاتصال بالزعيم الجديد والتحالف معه لترويج السلعة في مختلف المدن ضمن اتفاقات خاصة توزع نسبة الأرباح بحسب المناطق والأسواق.

أدى توسع السوق إلى رفع قلق الشرطة والمخابرات. فالبضاعة كانت تصل بانتظام ولم يكن أحد على علم بمصدرها والأساليب التي تنقل بها. فالأجهزة كانت في حيرة من أمرها ولم تتخيل يوما ما أن الوسيط الناقل للبضاعة هو ضابط في الجيش يحارب في فيتنام ويستخدم نفوذه للرشوة وتمرير المخدرات بالتوابيت التي تنقل جثث ضحايا الحرب.

هذا الربط بين تجارة المخدرات وتجارة الحرب يشكل حجر زاوية في فكرة الفيلم التي استهدفت نقد سياسة الولايات المتحدة ودروها السلبي في الخارج.

الشريط الثاني يتحدث عن حرب أفغانستان التي اندلعت بعد توقف حرب فيتنام. مشكلة أفغانستان مختلفة ولكنها في جوهرها ليست بعيدة عنها.

فالغزو الذي أقدم عليه الاتحاد السوفياتي يشابه ذاك الغزو الذي أقدمت عليه الولايات المتحدة. وإذا كانت أميركا أخطأت وتورطت فلابد أن تستفيد من تورط السوفيات في أفغانستان وتحويل المناسبة إلى فرصة للانتقام. وبما أن الحرب هي الحرب في كل زمان ومكان، فهي تؤدي إلى الفوضى وانعدام سلطة القانون وتشجع على القتل وتجاوز المحرمات وتعطي فرصة أيضا للتهريب وترويج المخدرات وبيع الأسلحة وتسجيل أرباح لمؤسسات التصنيع الحربي.

بطل قصة أفغانستان رجل أبيض وعضو في الكونغرس الأميركي. هذا النائب في أعلى سلطة تشريعية اكتشف خطورة الورطة التي سقطت فيها موسكو. ووجد أن دعم «المجاهدين» وتدريبهم وتسليحهم تشكل فرصة للانتقام وبداية جيدة يمكن التأسيس عليها لتطوير العلاقات مع الدول المسلمة وتحديدا باكستان في زمن الجنرال ضياء الحق.

من هذه الفكرة الايديولوجية (صراع المصالح والحرب الباردة) بدأ السيناريو يتطور من خلال تلك العلاقة بين رجل الكونغرس وسيدة رجعية محافظة تكره الشيوعية وتملك ذاك النفوذ القوي مع شركات التصنيع الحربي امتدادا إلى الجنرال في باكستان. وهكذا تبدأ السيدة في مد الجسور لرجل الكونغرس وأخذت بفتح الأبواب لنشاطه وتحركاته واتصالاته من واشنطن إلى إسلام آباد بذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان وترويج الديمقراطية وغيرها من شعارات خلابة ولكنها تغطي تجارة دولية تقوم على تصنيع السلاح. وبسبب نشاط رجل الكونغرس «الإنساني» نجح بدعم من مؤسسات التصنيع الحربي وتلك العلاقات الخفية مع الجنرال في رفع موازنة دعم «المجاهدين» من 5 ملايين دولار إلى مليار دولار في العام الواحد. وتحت سقف الحرب استفاد الجميع إذ نجحت شبكة العلاقات في تطوير قوة المجاهدين الصاروخية التي ساهمت في تعديل الميزان وترجيحه لمصلحة أفغانستان. وحين انسحب السوفيات وانتهت الحرب انتفت الحاجة إلى السوق الأفغانية وتناست القوى التشريعية في الكونغرس أن هذه الدولة الفقيرة سحقت ودمرت مؤسساتها وتقوض عمرانها. رجل الكونغرس اكتشف فجأة أن مهمته انتهت وعليه الانسحاب من المسرح السياسي محملا بالجوائز وشهادات الشرف. أما إعادة إعمار أفغانستان وبناء المدارس فهي مهمة ليست أميركية لذلك قرر الكونغرس خفض الدعم من مليار إلى مليون دولار في السنة.

الشريط الثالث يتحدث عن محامٍ قدير انتدبته شركة تصنيع البذور للترويج والدفاع عن البضاعة. عمل المحامي 17 سنة في الشركة من دون توقيع عقد عمل في اعتبار أنه يأخذ حصته من المهمات التي يكلف بها أو تلك التي ينجح في تسويقها.

هذا المحامي أخذ يتعرض لضغوط مالية ونفسية بسبب إقدام صاحبه على تهديد الشركة بفضيحة نظرا لاكتشافه مخاطر صحية ناجمة عن تصنيع البذور الزراعية في المختبرات.

الشركة آنذاك كانت تمر في مرحلة حساسة فهي معروضة للاندماج بشركة أخرى بصفقة تبلغ قيمتها نحو أربعة مليارات دولار. لذلك فإن أية فضيحة ستؤثر عليها وستمنع احتمال الدمج وربما أدت إلى خفض قيمة أسهمها وإفلاسها. وهكذا يبدأ الصراع الخفي بين مديرة الشركة التي كانت تقود حملة الدمج (البيع والشراء) وصديق المحامي وهو خبير في المختبرات الكيماوية وعلى اطلاع بالملفات وخطورة البضاعة وأضرارها السلبية على صحة الإنسان. والمحامي كان ضحية التجاذب ولم يكن على بينة بالتفصيلات ولا علم لديه عن سياسة الشركات ونوعية البذور.

التجاذب أدى إلى تطوير الخلاف السري وانتهى إلى إقدام مديرة الشركة على إعطاء أوامر بقتل الخبير الكيماوي قبل افتضاح المسألة. فالخبير رفع دعوى قضائية تستند إلى معلومات موثقة وشهود لذلك كان لابد من التخلص منه بسرعة حتى لا تتعطل خطوة الدمج. قتل صديق المحامي بطريقة فنية وحرفية (حال انتحار) أحدثت صدمة وأدى به الأمر إلى التسابق لمعرفة سر الانتحار... وهو ما أدركه حين توصل إلى اكتشاف الوثيقة التي تحتوي كل الأسرار والمعلومات وتحدد مخاطر استخدام هذه البذور الزراعية على الصحة العامة.

المشهد الأخير ينتهي بانكشاف أمر الشركة ومديرتها قبل لحظات من توقيع عقد الاندماج. إلا أن مسرحية الأنشطة في هذه المجالات الخطرة وتلك الحقول لا تظهر أنها انتهت على الشاشة. فالفضيحة وجهت ضربة محدودة لنمط معين من التجارة ولكن هذا النوع من المواد التي تسمم صحة الإنسان لاتزال منتشرة بمسميات مختلفة.

الأفلام الثلاثة رائعة فهي متقاربة وتحاكي مجموعة عناصر مترابطة مع بعضها من بعيد ولكنها متفاعلة ومتناغمة ميدانيا. فالحروب تجارة أسلحة. والمخدرات تجارة. والشركات الفاسدة تروج بضاعة مضرة... كذلك المختبرات ومؤسسات التصنيع من القتل إلى الأدوية. هذا الربط المنطقي بين الحروب وتجارة الأسلحة وتهريب المخدرات بتوابيت الجنود وصولا إلى الشركات العاملة باسم الإنسانية ورجال الشرطة والمحاماة وأعضاء الكونغرس انتهاء بالسماسرة والوسطاء والزعماء وقادة الدول يشكل حلقة دائرية تبدأ بالفساد وتنتهي بحب السلطة والسيطرة والاحتكار والجشع والتسلط واكتناز المال حتى لو كان على جثث البشر وصحتهم وحياتهم ومستقبلهم.

العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً