العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ

ما زلنا في انتظار غودو

لعلّ في العنوان المختزل لهذه المقالَة القصيرَة ما يلخّصُ فكرة أساسيّة، ما زالتْ تلك الفكرَة محْورا لعددٍ من المقاربات الإبستميولوجية والفلسفيّة والجماليّة التي تخصّب أدواتها وتستثمرها في مقاربة تلك الفكرة الإشكاليّة، لتجد كلّ مقاربة منهجا كتابيّا خاصّا وجد تجلياته فيما اعتدنا أن نسميه تيارات الأدب والفن منذ الكلاسيكية (اليونان، عصر النهضة الأوروبية)، والرومانسية (فكتور هوجو، ألفرد ده موسيه، غوتة، علي محمود طه) والرمزية (شارل بودلير، فرلين، آرثر رامبو، مالارميه) والسريالية (لويس أراغون، بول إيلوار، رينيه شار، أندريه بريتون) والإيماجيّة (ت إس أليوت، إزرا باوند)، والبرناسيّة (سعيد عقل، ليكونت دي ليل)، فسؤالُ ما الغايَة منَ الأدب كان سؤالا أساسيّا ومفهوما ذهنيّا ارتبطَ عمقيَا بالبناء النظريّ للتصوّر الفلسفي لكلّ اتجَاهٍ من الاتجاهات الأدبية والتشكيلية والموسيقيّة...

في مسرحية في انتظار غودو للكاتب الأيرلندي الذي يكتب باللغة الفرنسيّة مَجالا وَاسَعا وفضاء خصبا للمقاربة التطبيقيّة لفكرة أن الأدبَ من غير غاية أو لا يسعى نحو هدف، كما يدّعي أصحاب النسق الإيديولوجيّ والدينيّ والأخلاقيّ، فالكتابة معناها ألا نصلَ، أو أن تنتظر، أو أن تعود من حيث أنت كلّما تقدّمت للأمام...

فكرة أن تكتب معناه أنك كلّما تقدّمتَ عدتَ وكلّما عدت تقدمتَ في دائرة لا تنتهي تجدُ تجلياتها في هذه المسرحية التي كانت مفصلا في تاريخ الأدب والفنّ عموما، وفي تاريخ المسرح خصوصا، في فرنسا كما في كل العالم...

ولكن من هو صمويل بيكيت؟

ولد بيكيت العام 1906مـ وفي العام 1989 كان شَمسا سوداء قد انطفأت؛ لتخلّف وراءها إرثا أدبيّا ورأسمال ثقافيا وفضاء جماليّا ما زال إمكانا للبحث والدراسة والاستثمار وإعادة الإنتاج، فأحد تجليات ذلك الإرث والرأس مال الذي ما زال يمدّنا بمجالات للدراسة ما قامت به « حلقة أبحاث صمويل بيكيت « في اليابان، مؤكّدة أن في أدب بيكيت الكثير من عناصر التراجيديا والكوميديا والألم والأمل التي لا تمثّل الإنسانيّة جمعاء فحسب، بل تمسّ الوجدان الياباني في الصميم، ولعلّ من المهمّ أن نذكر أن بيكيت لم يكتب بالإنجليزية ـ لغته الأم ـ سوى ديوان « عظام أكّو « في العام ،1935 وقد رفض أن يترجم هذا الديوان للغة الفرنسية التي سيصبح من أكبر كتابها حين يصدر عدّة أعمالٍ كان من ضمنها ديوانا بعنوان « قصائد « صدر في العام 1978، كذلك مسرحية « أيام هانئة « التي رسمَ فيها واحدا من أصعب الأدوار التمثيليّة في تاريخ المسرح، وبحسب صبحي حديديّ حيث يقول « إذ كيف يمكن لممثلةٍ مهما بلغت براعتها أن تسترعي انتباه المشاهدين إليها ( بوصفها الشخصية الوحيدة ) وهي مدفونة في كثيب رمليّ حتى ثدييها في الفصل الأوّل، وحتى عنقها في الفصل الثاني والأخير؟! وكيف يمكن لها ذلك وقد سلطت عليها، أو على فمها تحديدا بقعة ضوء ساطع يخطف الأبصار ولا يبارح خشبة المسرح حتى إنزال الستارة؟!! »...

لبيكيت عددٌ من الأعمال الشعريّة والروائيّة والمسرحيّة « موللوي « وتكملتها « مالون يموت « و « اللامسمّى « و « وات « خاتمة الثلاثية الروائيّة موللوي ومالون، وروايتان قصيرتان هما « الحب الأول « و « الصحبة «، بعد ذلك تأتي مسرحية « في انتظار غودو « التي صدرت في العام 1952، ليحوزَفي العام 1969 مـ على جائزة نوبل للأدب؛ لتتشرف تلك الجائزة بأن يدرج في قائمة حائزيها اسما كانَ وما زال اسما يثيرعددا من أسئلة الفنّ وجماليات الكتابة وتكنيك الأدب وإشكالات الحياة والوجود.

في مسرحية في انتظار غودو نجد خمس شخصيات هم « إستراجون، فلاديمير، بوزو، لاكي، غلام )، ويمكنني أن أعتبر غودو شخصيّة رئيسيّة في هذا النصّ، إذ إن غودو هو بنية النصّ الأساسيّة، وما هذه الشخصيات إلا وحدات نصيّة تشتغل في فضاء النصّ انتظارا لغودو الذي لا يأتي أبدا، ولعلّ سؤالا أساسيّا يظلّ يراود المتلقيّ ويرسمُ حيرة وغموضا يتشكّلُ حول هذه الشخصية المجهولة في ماهيّتها وهيأتها ودورها وجدواها، ولعلني أرجّح من خلال النصّ أنْ يكون غودو معادلا لفكرة الخلاص أو النجَاة التي تشكّل بنية الفلسفة الكلاسيكية كما تشكّل بنية الأديان...

تحت مظلة الخلاص أو النجاة يمكن أن نضعَ عدّة تحديدات لتلك الفكرة، من تلك المسميات مثلا الله، كما يمكن أنْ نضع احتمالا لما يسميه البعضُ الغاية أو الجدوى، وكلّها احتمالات دلالية تندرج تحت فكرة الخلاص لكنّ الأكيد أن غودو هذا لا يأتي مهما طال الانتظار وظلّ هكذا حتى نهاية الفصل الأخير...

لعلّ البعدَ الأبرز في المسرحية هو البعد اللغويّ، حيث نجد لغة خالية من المشاعر، مفرّغة دلالاتها من الأحاسيس، لتترك أثرا في ذهن المتلقيّ، وإحساسا مرافقا في عمليّة القراءة، بأن الحياة مجرّد أحداث ووقائع لا تنبئ إلا بالخواء ومرحلة الصفر، فبيكيت يستخدم في مسرحيتهِ لغة مختزلة جدا، عادية، خالية من التكثيف الصوريّ والمجازيّ، إلا إن تلك اللغة قلقة، متشظيَة، عبثيّة، مُحايدة تصل لحدود العدم، تتساوى حين تتناول ثيمة الخلاص / غودو، أو الحذاء، أو لاكي، أو الموت، أو الانتحار، أو الحزن والبكاء، مما يجعل الكلمات والحوارات مفرغة من الحالة الشعوريّة لترسم من خلال فراغها حالة شعورية تشير لثيمة العبث واللا جدوى والإحساس بالموت أو مرحلة العدم، خصوصا أن تلكَ اللغَة تتضافرُ بنيويّا معَ الأحداث اللا معقولة، فمثلا يبتدئ الفصل الأول بتحديد الزمان بأنه في المساء، لكنّنا ندرك من خلال الحوار بأن الوقت نهارٌ مشعٌّ، بالرغم من أن المشهد يدور في المساء، ومن هنا نجد تأويلا لنهاية الفصل الأول حين يقول إستراجون لفلاديمير حسنا، هل نمضي؟ فيردّ فلاديمير قائلا هي بنا نمضي، لكنّهما رغمَ ما قالا لا يتحركان، ولعلّ في رسم صورة مشهد الدخول للاكي وبوزو ما يرسم أفضل حالة للامعقولية حيث يدخل بوزو رابطا عنق لاكي بحبل بقصدٍ أن يجرّه، لكنّ لاكي هو من يدخل أولا، ليتبعه بعد ذلك بوزو، واللغة في المسرحية كما الأحداث تتضافرُ مع الفوضوية واللا منطقيّة وانعدام السياق التي تأتي فيه الكلمات والثيمات واحدة تلو الأخرى دون أيّ وضوح أو سياق منطقيّ سوى المنطق الداخليّ والضمنيّ للنصّ وهو أنّ الحياة مجردعبث وفوضويّة ولا جدوى.

عندما ننتهي من قراءة المسرحية سنجد أن الثيمات ذاتها تعود مرّة أخرى، بنفس الألفاظ أحيانا، وأحيانا أخرى بألفاظ مقاربة، ما يجعل التكرارَ دلالة عميقة أن الحياة عبارة عن سلسلة متواصلة من التكرار الذي يشيء بالعبثيّة ولا معقولية الحياة ولا جدواها؛ لينتهي فصلها الأخير كذلك بما انتهى به الفصل الأوّل كما ذكرنا سابقا، ولعلّنا لو حاولنا أن نبحث في فضاء النصّ وبنيته عما يؤكّد قراءتنا لاحتمالات غودو الدلاليّة، فسنجد كثيرا من المقاطع التي إن أخرجناها خارج سياقها النصيّ فستجد ثيمات العبث والتكرار، وحين نعيدها لسياقها الحواري سنجد أن سياق الحوار وسياق الجمل المخرجة خارج السياق تتضافر من أجل رسم صورة أكثر عمقا لذات الثيمات...

« أحيانا أشعر أنّ كلّ الأشياء سواء وعندئذ أحسّ بالاضطراب».

« في وسط كل هذا لا شيء يحدث أبدا »

« لا شيء يحدث، ما من إنسان يأتي أو آخر يذهب »

« إذن كلّ ما يمكننا أن نفعله هو أن ننتظر هنا ».

« لقد عشت طوال حياتي القذرة زاحفا في الطين »

« لقد قضينا مساء أمس في الحديث عن شيء غير محدد.. إن هذا يجري الآن لمدّة نصف قرن مضى »

« سننتظر حتى يأتي الليل / لكن الليل لا يأتي»

« إننا في الانتظار. لقد استبدّ بنا الملل».

« متى! متى! في يوم ما، ألا يكفيك هذا.. يوم ما يشبه يوما أخر »

يقول المسرحي البريطانيّ هارولد بنتر الحائز على جائزة نوبل للآداب: «لا أريد من بيكبت الفلسفات والمنشورات والدوغما والعقائد والمخارج والحقائق والإجابات... يكفيني أنه الكاتب الأكثر شجاعة، وكلما سحق أنفي في البراز أكثر، ازداد امتناني له أكثر وأكثر» / صحيفة الكرمل ـ المصدر...

إضافة لذلك أقولُ بأني لا أريد من بيكيت تصورا نهائيا ويقينيات مطلقة حول الحياة والوجود، بل يكفيني أن بيكيت قدّم مسرحية، ما زالت مجالا نصيّا خصبا، يمكن لكلّ من يأتي أن يستثمر أدواته النقدية وثقافته وفلسفته في مقاربة هذا النص المسرحيّ المتعدّد الدلالات والذي لا أجد وصفا يليق به سوى أن أقول بأنه نصّ إستثنائيّ في تاريخ الأدب العالميّ.

العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً