العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ

غزة... و«فقه المعابر»

كم يبدو العالم زنزانة في ظل أسوار ومعابر تتولى فضاءها وحدودها قوة احتلال، عدا دولة احتلال. تحاول مثل تلك الأسوار والمعابر أن تصادر الذاكرة قبل أن تصادر حق العبور إلى الضفة الأخرى من المكان/ الوطن المقسّم إلى كانتونات. كانتونات لا تأوي أصحاب الأرض بقدر ما تأوي شحنة استيراد لشعب تائه أو يراد له أن يكون تائها في الجهات الأربع كي يكون مسوّغ الاحتلال أكثر إقناعا أو إقحاما في إنسانيته!

باتت الاجتياحات في قطاع غزة «عملية روتينية» بحسب النص الرسمي لوسائل الإعلام الصهيونية. ذلك يتجاوز الاستخفاف بالدم الفلسطيني، وصولا إلى الذاكرة. من يجرؤ على وضع الدم في المرتبة الأولى قبالة الذاكرة؟.

ثمة «فقه» للمعابر يجب التعاطي معه بأكبر قدر من الحساسية لحظة النص، ولكنه على الأرض ضالع ومتورط في الذروة من الحساسية، وخصوصا لأولئك الذين يضطرون إلى اختبار حواسهم وذاكرتهم وقدرتهم على تحمّل هذا الدرس الجهنمي الذي لا يغري تحمّله على الصبر للظفر بالجنّة! تحمّل كهذا مأواه النار بمقياسين، مقياس الإيمان بعالم آخر، ومقياس الإيمان بالعالم الماثل الذي يراد له أن يكون نسخة مصغّرة من جحيم في العالم الآخر!.

«اسرائيل» ليست معنيّة بالدم الفلسطيني لفرط ما أوغلت فيه، بقدر ماهي معنيّة بذاكرته... ذاكرة ذلك الدم، وقدرته العجيبة على اختزال كل تاريخ المجازر بإصرار على الحياة ضمن شروطه وأولوياته.

***

معبر رفح فضاء طارئ، ضمن تداعيات ماحدث، وصولا إلى الضفة الأخرى من أرض الكنانة. فضاء طارئ لأن التواطؤ بيّن ولا يقبل القسمة على اثنين... تواطؤ يدفع بأنظمة الواقع الراهن، تلك التي ترفع شعارات هي أسمى قامة منها... لأنها باتت لا تُرى بالعين المجردة لفرط توغلها الصريح في صد الأبواب وأحيانا التحريض على إحياء أكثر من حفل لإراقة دم يشكّل لها غصة وورطة، خصوصا وهي مشغولة بلهوها ووهمها بالخلود الذي يدفعها لارتكاب مهزلة الحضور.

ما حدث من انفراج في معبر رفح، هو في حقيقته محاولة استجداء حالة انفراج لنظام محاصر بحالات من الرفض في الداخل بفعل ممارساته، وبفعل بيانات تجرأت على الإشارة إلى تجاوزاته، أقلها اختطاف علَم ومفكّر عربي كبير، وإلقاؤه في صحراء تكفي لتدشين تيه جديد لشعب جديد!.

غزة ليست بحاجة إلى قطع التيار الكهربائي كي تحطم أسوارا مصطنعة. غزة بحاجة فقط إلى ألا يعوّل المتخمون والمرابون والسماسرة وتجار الدم على صبرها كثيرا كي لا تضطر إلى استدراج دم إضافي أو محوري.

غزة بحاجة إلى أن تقنع قادة المراحل الطارئة على أرضها بأن «إسرائيل» لا تملك مساحة إضافية في ذاكرتها لاحتواء «يهوذا» آخر على أرض شهدت أكبر الخيانات على مر التاريخ، ممن توهم كثيرون أنهم في اللب من النص والمتن. في العمق من القلب والذاكرة.

غزة بحاجة إلى تقديم درسها تحت شمس الحدود والمعابر والثوار الذين أصبحوا أرباب منتجعات وصالات للقمار، ولكنهم لا يتورعون عن تلويث مفردة الثورة بلسانهم وفمهم الموبوء!.

***

في الوحشة والصقيع... في القمة التي يغذيها حرس، ولو أخضعت دمهم إلى التحليل لأنكر عروبتهم... تصر غزة على أن تكون «غزة» في خاصرتهم وخاصرة المحتل (ولي نعمة أولئك الحرس) ... تصر على أن تكون على مسافة من الرماد، وعلى مسافة في مقاومتها لمحو الذاكرة واستبدالها بحرس مشغولين ببواباتهم التي لن يمسسها سوء، ويظلون قادرين على التحرك ضمن مسارات يحددها لهم العدو وهم ممتنون له! فيما لا تشعر غزة بمثل ذلك الامتنان وهي تحيل أسوار معبر رفح إلى ركام كحق طبيعي في زمن صهيوني أقصى غايته أن يحيل الذاكرة الفلسطينية ومن بعده العربية إلى ما دون الركام!.

العدد 1973 - الأربعاء 30 يناير 2008م الموافق 21 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً