في لبنان «زوبعة في فنجان» تدور حول صلاحية القوى والفعاليات غير الرسمية القيام بزيارات إلى دول إقليمية والانخراط في محاورها وإطلاق تصريحات خطيرة تمس سيادة الدولة وتزعزع التوازن الأهلي وتدفعه باتجاه التصادم. فالزوبعة ارتفعت حرارتها على أثر قيام الجنرال ميشال عون بزيارة طهران وهبت عواصفها بعد ذهابه إلى دمشق واستقباله رسميا على أعلى المستويات.
الاعتراض يتركز على الحق والصلاحية وتجاوز المؤسسات الرسمية وتحديدا رئاسة الجمهورية التي نجحت في عهد الجنرال ميشال سليمان في إعادة التوازن والحيوية إلى موقعها بعد سنوات من الانكفاء والانغلاق الدبلوماسي والاكتفاء بقناة واحدة. الرئيس سليمان كسر الحجر الصحي على الموقع الأول في الجمهورية اللبنانية ولبى زيارات جمعت التعارضات والمحاور فذهب إلى سورية ومصر والسعودية وإيران والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، ورفض مقاطعة منتدى «حوار الأديان» في نيويورك باعتبار أن بلاد الأرز هي أكثر دولة معنية بهذا الجانب الثقافي الحضاري والإنساني.
الاعتراضات السياسية التي صدرت حديثا جاءت تعقيبا على زيارات الجنرال عون ولم تتناول موضوع الرئاسة الأولى ونجاحها في تنويع القنوات الدبلوماسية التي يحتاجها لبنان للخروج من دائرة التجاذب الإقليمي والاستقطاب الدولي. فالرئيس كسر بحكم موقعه وصلاحياته الدستورية الحجر الصحي وفك طوق العزلة حول قصر بعبدا، لذلك اقتصر الاعتراض على تلك الزيارات غير الرسمية التي يمكن أن تدخل بلاد الأرز في محاور قطبية إقليمية تعطل عليه إمكانات النهوض وإعادة الإعمار وتفتح عليه مشكلات مستوردة قد تورطه في مواجهات غير مستعد لها أو غير قادر على تحمل نتائجها.
الاعتراضات إذا سياسية في جوهرها اللبناني وهي أطلقت احتجاجا على توقيتها وجدول أعمالها. ومشكلة القوى المعترضة أنها لم تقرأ جيدا ذرائع زيارات عون إلى طهران ودمشق وتضعها في نطاقها الدولي والإقليمي إذ اكتفت بحصر الأسباب في إطار لبناني. وهذه القراءة القاصرة في مقدماتها ونتائجها تعطل إمكانات رؤية المسألة في سياق تحولات دولية ومتغيرات إقليمية شجعت الجنرال على المغامرة السياسية ودفعته بقوة نحو الالتحاق بالمسيرة قبل فوات الأوان.
خطوة الجنرال ليست غبية وإنما جاءت في سياق قناعات سياسية أخذت تمتد إقليميا وبدأت تكتسح العقول المفكرة لترسم أمامها صورة متخيلة عن مستقبل قريب ينتظر لحظة قسم الرئاسة وتسلم الرئيس المنتخب باراك أوباما مفاتيح البيت الأبيض من سلفه جورج بوش. فالخطوة في منطقها السياسي ليست لبنانية باعتبار أن الجنرال يدرك في قرارة مشروعه المسيحي أن الزيارتين لن تثمرا سوى المزيد من التراجع في شعبيته المارونية. فالشارع المسيحي الذي تضرر سياسيا ونفسيا وثقافيا وأهليا من المحور الإيراني - السوري لن يكون سعيدا أو مرحبا أو متقبلا لتلك الخطوة التي تثير المخاوف والشكوك وترفع من شعبية الطرف المعارض لمسلكياته.
الجنرال عون ليس غبيا حتى لا يفكر بالآثار السلبية التي ستخلفها زياراته وعلاقاته وتصريحاته المؤيدة للمحور الإيراني - السوري. والجنرال الطامح للرئاسة الأولى هو الأكثر علما ودراية من غيره لتلك النتائج المثيرة التي ستؤثر على موقعه المسيحي وتضعفه مارونيا في شارع يرى أن قصر بعبدا ليس ملجأ للعابثين بحقوقه الدستورية. فالجنرال كان على علم ودارية بكل ذاك المردود السلبي على شعبيته وطموحه الشخصي ومع ذلك فعلها وتوجه نحو المحور الإقليمي الذي لا يلقى تلك المودة في الشارع المسيحي ولا يكسب تلك الشعبية في الشارع المسلم لتعويض خسائره في الطرف المقابل.
إذا لماذا فعلها الجنرال وغامر سياسيا بشارعه وطموحه الرئاسي؟ الجواب ليس لبنانيا أو مسيحيا لأن حسابات الجنرال إقليمية وليست محلية. فالزعيم الطامح يرى الموقع الرئاسي في إطار دولي - إقليمي يتجاوز حدود الطائفة وحقوق الموارنة. وانحيازه الواضح للمحور الإيراني - السوري جاء بناء على قراءات قد تكون صحيحة أو وهمية أو غير دقيقة ومبالغة في تصوراتها وتوقعاتها... ولكنها في النهاية تحولت إلى نوع من القناعات الأيديولوجية التي تحتمل الخطأ أو الصواب وذلك بحسب توجه الرياح الدولية في نهاية الشهر المقبل. فالرياح الأميركية في عهد الرئيس أوباما هي التي ستحدد في النهاية مجال نجاح الجنرال في مراهناته الإقليمية ومدى نجاعة قناعاته في إصابة الهدف.
قناعات بلورية
قراءة الجنرال الإقليمية تأسست على رؤية دولية - أميركية ترى أن المنطقة مقبلة على تحالفات جديدة ستقلب الطاولة وتخلط الأوراق وترسم خريطة طريق مخالفة لكل التوقعات والتصورات. وهذه القراءة المأخوذ بقناعاتها وارتداداتها الكثير من المراقبين والمتابعين يمكن أن تكون قاعدة انطلاق الجنرال نحو المحور الإيراني - السوري. فهو يرى أن الذكاء يتطلب منه الإسراع والصعود إلى القطار حتى لو كان ثمن بطاقة السفر غالي الثمن ويفسد عليه الكثير من العلاقات والأنصار والمؤيدين.
الجنرال كما يبدو يراهن على معادلة إقليمية يرى أنها انتصرت أو قاب قوسين من إعلان الانتصار، لذلك سارع إلى توجيه قذائفه المدفعية نحو الهدف البعيد من دون مراعاة لخصوصية شارعه القريب وحساسيته وهواجسه ومخاوفه وقلقه على موقعه في المعادلة اللبنانية. وبناء على هذه القراءة الاستباقية لمعادلة التوازن الإقليمي في عهد أوباما قرر الجنرال التضحية بشعبيته المسيحية قبل اقتراب موعد العيد، لقناعة داخلية ترجح فوز المحور الإيراني - السوري بعشق واشنطن السياسي ورغبتها الجامحة بعقد قران مقدس مع طهران ودمشق.
المسألة إذا ليست لبنانية ولا مسيحية وبالتأكيد ليست مارونية ولاصلة لها بتلك الحسابات الانتخابية المحلية والنيابية. حسابات الجنرال دولية - إقليمية تأسست على قناعات تشير إلى نوع من التحالف أو التضامن أو التقارب أو التعايش أو التساكن بين الولايات المتحدة في عهد أوباما والمحور الإيراني - السوري. وعلى أساس هذه المعادلة المتوقعة برأيه أو اعتمادا على تلك القراءة الاستباقية وجد الجنرال أن هناك فرصة منتظرة لابد من اصطيادها قبل الإعلان عنها رسميا. فمن يسارع بالذهاب إلى المحور المنتصر قبل الأوان يربح داخليا ومحليا ويقطع الطريق على غيره من المنافسين أو المزاحمين على منصب الرئاسة اللبنانية، باعتبار أنه صاحب قصب السبق في استكشاف آفاق المستقبل والتقاط المتحولات ضمن رؤية بلورية تتوقع متغيرات الزمن في الأيام الآتية.
لبنان الآن «زوبعة في فنجان» إذ تتكاثر على شاشاته الفضائية في نهاية كل سنة ميلادية تلك البرامج التي تتوقع الحوادث الكونية والمحيطية والمحلية قبل حصولها بناء على حسابات فلكية ورؤى بلورية. والجنرال في طبيعته العسكرية المغامرة ليس بعيدا عن تلك الفضاءات التي تراهن على التوقعات وتؤسس السياسة على قناعات قد تفوز وقد تخسر فإذا أصاب كسب الجولة وإذا أخطأ ينكسر «الفنجان» وتتلاشى الزوبعة في عواصف الأمنيات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2284 - السبت 06 ديسمبر 2008م الموافق 07 ذي الحجة 1429هـ