غادرنا مطلع الأسبوع الماضي، الوالد المغفور له بإذن الله أحمد بن علي أحمد حسن محمود... والذي ينحدر من سلالة فارس بن شهوان، الفارس المشهورة قصة هجرته من الساحل الغربي للخليج العربي إلى الساحل الشرقي (فارس).
الحاج أحمد هو أحد كبار المعمرين بمدينة المحرق. وكان أن سكن في فريج العمامرة قرب عين العمامرة. عجنته الحياة بمرها أمرارا. شارك صغيرا مع والده في إحدى المعارك الحربية في بدايات القرن الماضي.
حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، عاش - رحمه الله - كريما قويا صلبا. وكان في كامل صحته وعنفوانه وقدرته عمل في مهن صعبة وشاقة. حفلت حياته بالكثير من التنقلات والسفرات والضنك والشدة. عاش حياة صعبة جدا، إذ تنقل من عمل إلى آخر فارسا مكافحا من أجل الحصول على لقمة العيش الكريمة له ولأبنائه حسن ومحمد وعلي ويوسف وإبراهيم وعادل. وكان لزوجته ورفيقة دربه ابنة عمه (شقرة بنت محمد) - رحمها الله - الأثر الكبير في حياته.
ركب البحر صغيرا ضمن سفن الغوص، وتنقل مسافرا مع والده لنقل البضائع في موانئ الخليج: العجير، البصرة، المنامة، مسقط (مسكت)، بر فارس... وغيرها. ثم انتقل إلى العمل في شركة نفط البحرين (الجبل) «اليبل» بعد اكتشاف النفط وتدهور صناعة وتجارة اللؤلؤ، وبعد ذلك عمل في قطع الصخور من البحر (حصاي)، وفقد في تلك المهنة أصابعه بسبب سقوط صخرة كبيرة على رجله.
في ثلاثينيات القرن الماضي كان لديه دكان صغير في سوق الأربعاء بالمنامة، وحين احترق الدكان بسبب اشتعال حريق كبير في السوق أتى على الكثير من المحلات وخصوصا الخشبية منها، لم ييأس الحاج أحمد من الحياة، فذهب للعمل في البناء وعمل مع والده في بناء قصر الصخير حيث كان يشاهد في كل يوم حاكم البحرين آنذاك الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، الذي كان يقوم بمصافحته يوميا. واشتغل بعد ذلك في محلات الوجيه حسين أحمدي، ثم في «حفيز» الوجيه المرحوم عبدالرحمن بن حسن القصيبي ثم في «حفيز» سليس. وعاصر (رحمه الله) خمسة حكام للبحرين. يمتلك الحاج أحمد ذاكرة قوية في معرفة القبائل والعائلات في الخليج العربي، وخصوصا النازحة من بر فارس من البحرين وقطر. وقد لاحظتُ أن ولده إبراهيم الذي كان بارا بوالده، ورث عن أبيه معرفة القبائل والأنساب. هكذا هي الحياة تعجن بحلوها ومرها الرجال، وتشكل بمآسيها أخلاقهم وصمودهم في مواجهة الشدائد والمخاطر والأهوال.
هذه نبذة موجزة عن الوالد الحاج أحمد، عسى أن يستفيد جيل الشباب منها، والنظر إلى التضحية والإيثار والصبر والجلد على جور الزمان ومصائبه، إنها قصة كفاح لمن حفروا بأظفارهم في الصحراء، ولمن شيدوا جسورا صامدة لغاية اليوم نعبر من خلالها إلى المستقبل... إنها قصة من يستحق أبناؤهم وذووهم ومن هم على شاكلتهم كبحرينيين أبا عن جد حصاد ثروة باطن وسطح الأرض. إنهم البحرينيون الأصلاء وليس الدخلاء. إنهم من يسحقون بجدارة صفة «بحريني».
يقول الشاعر أحمد شوقي:
لم يمت من له أثر وحياة من السير
ادعُهُ غائبا وإن بعُدت غاية السفر
أيبُ الفضل كلما أبت الشمسُ والقمر
ربّ نورٍ متممٍ قد أتانا من الحفر
رحمك الله يا حاج أحمد وألهم أهلك وذويك ومحبيك الصبر والسلوان، وأسكنك فسيح جناته. وإنا لله وإنا إليه راجعون
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1972 - الثلثاء 29 يناير 2008م الموافق 20 محرم 1429هـ