بلا رتوش يلخص مشهد اجتياح الآلاف من فلسطينيي غزة، للحدود عبورا إلى مصر هروبا من التجويع والحصار، الأزمة التي تعصف بالمنطقة من أقصاها إلى أقصاها.
عبور أكثر من مليون فلسطيني للحدود خلال الأيام الثلاثة الأولى لفتح الحدود، يمثلون أكثر من ثلاثة أرباع سكان غزة، قالوا للقاصي والداني إن الأزمة المعقدة، قد عبرت إلى مرحلة جديدة، وأعادت تأكيد أن مصر في صميم المشكلة، على رغم كل اتفاقات كامب ديفيد بين مصر و «إسرائيل»، التي حاولت تحييد مصر والمصريين بعيدا عن القضية الفلسطينية. وبصرف النظر عن تلقائية وعشوائية اندفاع الفلسطينيين عبورا للحدود، فإن «إسرائيل» كانت هناك بلا شك، فهي التي مهدت الأرض وفتحت كل الطرق لتصدير الأزمة إلى الجانب المصري، وألقت الكرة المشتعلة إلى أحضانه... وبصرف النظر أيضا عما يمكن أن يسند إلى حركة حماس المسيطرة على غزة منذ يوليو/ تموز الماضي، من أنها هي التي كسرت سياج الحدود، وهي التي دفعت المواطنين العاديين للتدفق نحو الأراضي المصرية، فإن «إسرائيل» أيضا كانت هناك لأسباب كثيرة.
والشاهد أن أزمة غزة لم تعد فلسطينية إسرائيلية، ولم تعد كذلك فلسطينية، ولكنها أصبحت مصرية لاعتبارات التاريخ والجغرافيا والسياسة والأخلاق معا... وأصبح على مصر أن تدير هذه الأزمة بأكبر قدر من الحساسية والدقة، أولا بحكم الحرص على أمنها القومي، وثانيا بحكم التزامها القومي والتاريخي تجاه فلسطين والفلسطينيين.
وبداية فإن على مصر التزاما تاريخيا بالفعل تجاه غزة تحديدا، لأنها تقع على حدودها الشمالية الشرقية مباشرة، وأنها كانت تحت إداراتها لسنوات طوال، وتحديدا منذ العام 1948 حتى الاحتلال الإسرائيلي العام 1967، وثالثا لأن غزة برميل بارود ساخن على استعداد للانفجار في وجه الجميع في أي وقت ولأي سبب، فإذا ما انفجر فإن قذائفه ستنتشر في سيناء الواسعة المنفتحة المنافذ الكثيرة الممرات القليلة السكان.
وسيناء كما يعلم الجميع تخضع لقيود كثيرة فيما يتعلق بإجراءات الحراسة والحماية والمراقبة، فرضتها معاهدة السلام بين مصر و «إسرائيل» العام 1979، وهي قيود قلصت القدرة الأمنية والدفاعية المصرية إلى حد لا يسمح للقوات المصرية بفرض سيطرتها المحكمة على مداخلها ومخارجها المنفتحة.
وبقدر تعاطف المصريين مع الفلسطينيين وخصوصا من أهالي غزة، حين تدفقوا كاسرين سياج الحدود، بقدر القلق المنطقي الذي ساد دوائر مصرية رسمية كثيرة، من هذا العبور المنفلت، من دون تنظيم أو مراقبة أو حتى مراجعة عادية كتلك التي تحدث بين الدول ذات الحدود المشتركة.
وأظن أن هذا كله عرض للمرض الأساسي، مرض الاحتلال الصهيوني لفلسطين طولا وعرضا... وها هو المخطط الإسرائيلي الخبيث قد حقق بعض نتائجه، فقد انسحبت قوات الاحتلال من غزة من جانب واحد، ليس تطبيقا لضرورة انسحاب المحتل، ولكنه هروب من كرة اللهب المشتعلة في غزة، بكل ما تضمه من قدرات هائلة للمقاومة.
وبدلا من أن تترك «إسرائيل» غزة وحالها بعد الانسحاب الأحادي، راحت تضغط عليها بشكل منظم ووحشي عبر وسيلتين في وقت واحد، أولا من خلال الاعتداءات والاجتياحات والاغتيالات المستمرة ليلا ونهارا. بهدف استنزاف قدرات المقاومة، وثانيا من خلال فرض الحصار الحديدي على غزة، المتحكم في الدخول والخروج، في المأكل والملبس، في العمل والوقود والكهرباء، فإذا بمليون ونصف مليون فلسطيني داخل غزة يختنقون ساعة بعد ساعة، ويواجهون عقابا جماعيا مميتا، يناقض الالتزامات الدولية التي نصت عليها اتفاقات جنيف ولاهاي، الخاصة بمسئولية قوات الاحتلال تجاه سكان الأرض المحتلة، بل يناقض أبسط المبادئ الإنسانية، بعد أن أصبح 79 في المئة من سكان غزة تحت مستوى الفقر كما تؤكد منظمات الأمم المتحدة.
وعلى رغم تقديرنا لتضحيات «المقاومة الإسلامية - حماس» وجسارتها في مقاومة عدوان «إسرائيل» المتكرر، فإنها ساهمت بشكل سلبي في أزمة غزة، حين استولت عليها من أيدي السلطة الفلسطينية في منتصف العام الماضي، وأحكمت قبضتها على كل أمورها، وأصبحت متهمة أكثر من مرة، متهمة مرة من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية بالانقلاب على الشرعية، ومتهمة مرة ثانية من جانب «إسرائيل» وأميركا وأوروبا بالإرهاب، ومتهمة مرة ثالثة من جانب كثير من الدول العربية، بتخريب محاولات تسوية القضية الفلسطينية وبشق الصف الوطني وإضعاف المفاوض الفلسطيني.
وفي كل الظروف، لعب الجميع لصالح «إسرائيل» التي ظلت تضغط بعنف وعدوانية على «أنبوب» غزة الصغير، فإذا به يتضخم من الداخل بالاحتقان والجوع والتوتر، حتى انفجر، وحين انفجر لم يعبر الحدود نحو «إسرائيل» المحصنة، ولكنه عبر نحو الأسهل والأضمن، نحو الحدود المصرية، ولم يكن أمام مصر الرسمية وتحت ضغط التعاطف الشعبي الهائل، إلا أن تغمض عيونها وتترك العابرين يعبرون تنفيسا للأنبوب المضغوط المشتعل، متحملة في ذلك مخاطرتين رئيسيتين، المخاطرة الأولى تتمثل في ما يمكن أن يسببه هذا العبور المنفلت من متاعب أمنية انتشارا من سيناء وإلى الداخل، والمخاطرة الثانية تتمثل في تحمل الغضب الدولي، والأميركي خصوصا، بتحريض إسرائيلي صريح، وما يستتبع الغضب من عقاب! وباختصار شديد نجحت «إسرائيل» بدعم أميركي روتيني، في أن تصدر إلى مصر كرة غزة الملتهبة لتلقي بها في حجرها، عقابا لها على مساندتها للفلسطينيين، عموما، وعلى عدم إعلان حربها على حماس بعد استيلائها على غزة خصوصا، ولم تكن إثارة الضجة الكبرى حول الأنفاق السرية عبر الحدود بين مصر وغزة، وإغضاء مصر الطرف عنها، إلا مؤشرا مبدئيا على أن هذا التساهل المصري لن يمر من دون عقاب، وقد بدأ العقاب.
وبالمقابل، ومهما كانت أشكال العقاب، هل يمكن لعاقل أن يتصور غير الذي فعلته مصر بفتح الحدود وترك مئات الآلاف يعبرون ويعودون أو لا يعودون، هربا من جحيم الحصار والتجويع والقتل والتدمير اليومي الإسرائيلي، أو حتى هربا من لهيب الخلاف الفلسطيني الفلسطيني الذي مزق عرى الوحدة الوطنية وأساء للقضية بمثل ما أساء إليها أشد الأعداء عداوة!
من الآن فصاعدا أصبح عبء القضية الفلسطينية، أكثر ضغطا وإلحاحا على صانع القرار المصري، الأمر الذي يتطلب أشد درجات الحنكة والدقة والالتزام لمواجهة أزمة العبور أو الاجتياح للحدود المصرية الفلسطينية... لقد جاء حين من الزمن، تصور فيه بعض الساسة المصريين، أنهم بعقد اتفاقات كامب ديفيد 1978 ومعاهدة السلام مع «إسرائيل» 1979، قد تخلصوا من عبء القضية الفلسطينية، ونفضوا اليد منها، وقرأنا وسمعنا من يدعي أن مصر قدمت لفلسطين تضحيات هائلة، وهذا حقيقي، وجاء الوقت لنتخلص من هذا الصراع ونتفرغ للداخل المصري ونحمي أمنه، بعد أن حققنا السلام مع «إسرائيل» وأنهينا الحروب.
ولقد وقع هؤلاء في وهم أو غيبوبة، لأنهم لم يدركوا حقائق التاريخ وعوامل الجغرافيا، الرابطة بين مصر وما شرقها وخصوصا فلسطين، فيما يتعلق بالأمن الوطني والقومي، ولم يعرفوا أن استراتيجية هذا الأمن تقوم منذ رمسيس الثاني وأحمس حتى اليوم والغد، على حماية وتأمين هذا المنفذ الشرقي لمصر، وصولا حتى جبال طوروس كما فهمه إبراهيم باشا بالأمس، وكما يفهمه أصغر سياسي أو عسكري اليوم.
وحين مد جمال عبدالناصر بصره وأعمل بصيرته في إتمام الوحدة مع سورية العام 1958، لم يكن يغامر باحثا عن مجد شخصي كما أدعى أعداؤه، ولكنه كان يطبق استراتيجية المؤسسة العسكرية والسياسية، في ترابط الأمن القومي، عبر فلسطين إلى بلاد الشام مطلا على جبال طوروس والحدود التركية، وحين تناوشته الذئاب الإقليمية والدولية انكسر مشروع الوحدة، لكن لم تنتكس استراتيجية الأمن القومي حتى بمفاهيمها الكلاسيكية، بل ظلت حية وفاعلة حتى اليوم.
الآن في ظل كل المتغيرات الإقليمية والدولية، وتحت ضغوط العولمة والانتشار الاستراتيجي الأميركي المدعوم أوروبيا، أصبحت «إسرائيل» أكثر قوة وأعنف عدوانية من ذي قبل، وأصبح التراجع العربي شاملا، ولم تعد على الخريطة سوى «بؤر قليلة» يجري تصفيتها، وفي مقدمة هذه البؤر تأتي فلسطين، أو ما تبقى منها، وفي وسط وعمق فلسطين تبرز غزة الآن، باعتبارها برميل بارود مشتعل، إن لم تتمكن الآلة العسكرية الإسرائيلية من تفجيره بعيدا عنها، فعلى الأقل تلقي به في حجر مصر، وقد فعلت!
وأظن أن هذا سيغير معادلات كثيرة في المنطقة، وسيدفع مصر تحديدا إلى إعادة النظر بعمق وحرص شديدين، في خياراتها وفي أساليب إدارتها لأزمة غزة، امتدادا لمجمل أزمة الصراع العربي الإسرائيلي... وعلى المتأمركين والمتأسرلين أن يمتنعوا!
خير الكلام:
يقول العقاد:
تصفو العيون إذا قلت مواردها
والمـــاء عــند ازديــاد النيـل يعتكر
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1972 - الثلثاء 29 يناير 2008م الموافق 20 محرم 1429هـ