العدد 1972 - الثلثاء 29 يناير 2008م الموافق 20 محرم 1429هـ

لقطات سريعة من المشهد اللبناني

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الفوضى الأمنية التي اندلعت مساء 27 يناير/ كانون الثاني الجاري على محور مار مخايل - الشياح - عين الرمانة وأدت إلى حرق إطارات وقطع طرقات وتحطيم محلات وزجاج وقذف حجارة وإطلاق رصاص وقنص ورمي قنابل صوتية ومسمارية، كادت أن تتطور إلى مواجهات شارعية دامية لو لم تتدخل القوى العاقلة والفاعلة لوقف التدهور على الأرض.

ما حصل قبل ثلاثة أيام في منطقة شهدت قبل 33 سنة شرارات افتتحت بدايات حروب أهلية/ إقليمية امتدت جغرافيا وطائفيا ومذهبيا من العام 1975 إلى العام 1991 ولم تتوقف إلا بعد تدخلات دولية وجوارية وعربية، يمكن أن يتكرر في حال استمر الشحن والتحريض والتأليب من دون انتباه لخطورة الكلام الذي يتساقط على ميدان جاهز للانفجار.

هذه الفوضى الأمنية التي أودت قبل ثلاثة أيام بضحايا وجرحى وطرحت أسئلة عن الجهة الفاعلة والطرف المستفيد هي في النهاية نتاج فوضى سياسية يعيشها هذا البلد الصغير منذ العام 2004. فخلال السنوات الأربع الماضية تدولت قضايا لبنان وتأقلمت، وأدى التجاذب الدولي والإقليمي إلى تشكيل معسكرات أهلية ساعدت على توليد معارك جانبية واغتيالات وتفجيرات مضافا إليها تلك الحرب العدوانية في صيف 2006 ثم معارك مخيم «نهر البارد» وما تعنيه من امتدادات تتجاوز حدود الكيان الجغرافية.

الفوضى الأمنية هي نتاج الفوضى السياسية. والمشهد الدموي يعكس صورة واقعية تشير إلى عدم قدرة الأطياف المحلية على تكوين نقطة إجماع تستند إليها الأطراف اللبنانية لتحقيق نوع من التوازن الوطني الذي يمنع البلد من الانزلاق إلى هاوية التضارب الطائفي والمذهبي والمناطقي. فهذا البلد يعيش منذ فترة طويلة من دون مؤسسات تشرف على إدارة دولة هي أصلا ضعيفة ومشلولة. وحين تنكمش المؤسسات في بلد يعتمد نظام الملل والنحل تظهر على سطح السياسة خريطة مذهبية وطائفية ومناطقية تتجاذبها أهليا تلك التضاريس الديموغرافية التي يتألف منها الشارع.

الشارع اللبناني مجموعة شوارع. وكل حي تسكنه فئة. والتساكن الطائفي المذهبي يزداد خطورة في مناطق التماس. وتلك الحدود الهشة التي تفصل الأحياء والأزقة عن بعضها مستنفرة عصبيا. المسألة إذا مسألة أمتار وليست أميالا وهذا ما يمكن رؤيته من خلال وصف المشهد الدموي الذي اندلع على محور مار مخايل والشياح وعين الرمانة. المناطق الثلاث متجاورة إلى حد التلاصق ويمكن أن يتحول أي حادث عفوي إلى مواجهة منظمة بسبب الاستنفار الناجم أساسا من أجواء التعبئة التي تعيشها طوائف لبنان ومذاهبه.

ما حصل قبل ثلاثة أيام في ساحات المحور الثلاثي يؤكد بالملموس أن الانقسام في لبنان ليس سياسيا في جوهره. والانقسام السياسي الظاهر على سطح الشاشة العامة هو غير ذلك في حال تم حفر القراءة إلى الداخل. فالداخل محكوم بمجموعة اعتبارات محلية يصعب احتواء عناصرها من الانفلات في حال استمرت الفوضى السياسية إلى فترة زمنية أطول. هناك قدرة على الاحتمال. وتحميل البلد الصغير أعباء قومية ومهمات إسلامية أكبر من مساحته سيؤدي في المحصلة إلى انكساره وتحطمه إلى شظايا طائفية ومذهبية. وهذا الأمر الذي تدركه الكثير من الأطراف العاقلة والواعية بات لا يلقى تلك الآذان الصاغية في بلد تعصف به رياح التدويل والأقلمة وما تجذبه إلى لبنان من تعارضات عنيفة يصعب التعامل معها برؤية واقعية. ومشكلة الأطياف المحلية المحكومة بحسابات كبيرة وبعيدة المدى أنها أصبحت في موقع المتراجع نظرا إلى تلك الصعوبات التي تواجهها في ضبط الإيقاعات الكبيرة والبعيدة حين يعاد إنتاجها وتصديرها إلى بلاد الأرز.

لقطات سريعة

ما حصل قبل ثلاثة أيام في المحور الثلاثي يختصر سريعا المشهد العام في لبنان في حال انجرف أهله إلى مواجهات مجنونة وغير محسوبة. فالتصادم المحدود الذي حصل أنتج كارثة أمكن حصرها تحت سقف الحد الأدنى والمعقول من الخسائر. ولكن المشهد يعطي فكرة عن الكوارث التي يمكن أن تنجر لها الأطياف المحلية في حال قررت السير باتجاه هاوية الانتحار. حتى الآن لم تعرف كيف انزلقت الاعتراضات على الكهرباء والمعيشة إلى إشعال نيران وتحطيم نوافذ وتفجير قنابل ورمي حجارة وإطلاق رصاص وظهور قناصة على الأبنية وفي الأحياء. وهذا المشهد الذي تمثل في لقطات سريعة يؤكد أن الفتنة الأهلية مسألة معقدة ومتداخلة ويصعب على القوى الأمنية حصرها ميدانيا وضبطها قانونيا. فالاقتتال الأهلي لا قانون له ولا ضوابط تتحكم به. وخسائر الحروب الداخلية تفوق التصورات لأن أطرافها معلومة/ مجهولة وهي تعطي الحق لكل الاتجاهات لأنها توضع تحت خانة «حق الدفاع عن النفس» أو لائحة الخوف والتخويف ورد الاهانة وغيرها من ذرائع. ومثل هذه التفصيلات ليست بسيطة لأنها في المجموع العام تتأسس على موروثات تتجاوز السياسة وتدفع الناس قسرا إلى الانكفاء على الذات والبحث عن مكان آمن يضمن الحد المقبول للاستقرار النفسي للفرد. والنموذج العراقي الذي نجح الاحتلال الأميركي في تطويره إلى دويلات مناطقية وطائفية ومذهبية يشكل ذاك المثال الذي يمكن القياس عليه واستخراج العبر والدروس من سلبياته وسيئاته.

ما حصل قبل ثلاثة أيام في محور مار مخايل - الشياح - عين الرمانة يمكن أن يتكرر في المكان نفسه أو في أمكنة أخرى مشابهة وهي كثيرة في مناطق بيروت وغيرها من المدن والمحافظات. والمسألة في مجموعها النهائي ستكون كارثية. والمصائب ستقع على كل الأطراف والأطياف ولن تخرج منها الطوائف والمذاهب إلا منهكة القوى وغير قادرة على تشكيل رؤية سياسية جامعة. فالحروب الأهلية صعبة مهما حاولت بعض الأطراف تزيينها أو التقليل من مخاطرها. والإحساس بالقوة والتفوق على الآخر ميدانيا مسألة غير دقيقة في الحسابات السياسية، لأن حروب الأهل تحتوي على عناصر تفجير غير متوقعة ويمكن أن تجذب إلى الساحات «طوابير خامسة» و «أطرافا ثالثة» وهيئات ومنظمات وأجهزة مجهولة العنوان ولا يعرف من يسلحها أو يدربها أو يمولها. والمثال العراقي لايزال يلتهب ولا تعرف حتى الآن نهاياته في اعتبار أن الساحة حين تنكشف تنفتح آليا على امتدادات غير مرئية ولا يمكن التقاط صورها على شاشات التلفزة والفضائيات.

لبنان بلد صغير جغرافيا، ولكنه ممتد إقليميا نظرا إلى طبيعته الديموغرافية وتشكيلته الطائفية والمذهبية. وعلى رغم صغر مساحته فإن إمكانات السيطرة عليه تعتبر صعبة وربما مستحيلة... ولا يمكن التوصل إليها إلا بتوافقات دولية وإقليمية وجوارية. وحين تكون تلك التوافقات غير موجودة، وإذا وجدت فإنها إلى الآن غير واضحة في تكوينها ومعالمها، تصبح احتمالات الانفجار أخطر وبالتالي تزداد صعوبة إمكانات السيطرة عليه.

الوضع خطير للغاية إذا استمر انفلات الفوضى السياسية واضمحلال المؤسسات وتراجعها عن لعب دور الضابط الذي ينظم الانفعالات وما تعكسه من انقسامات أهلية عميقة الجذور ومتداخلة تحت الأرض نظرا إلى ضيق مساحة البلد. ومثل هذا الوضع الخطير يحتاج إلى احتواء يبدأ بالعمل على التفاعل ايجابيا مع مبادرة جامعة الدول العربية لحل الأزمة اللبنانية. فالحل العربي يشكل فرصة إنقاذية للبلد. وخسارة مشروع الحل ربما تمهد الطريق إلى انتشار الفوضى الأمنية وتدحرج الأزمة وانتقالها من مكان إلى آخر... ومن لبنان إلى محيطه. فهذا البلد يعتبر نموذجيا في استيراد الأزمات الإقليمية، ولكنه أيضا يمتلك إمكانات كثيرة تسعفه على إعادة تصديرها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1972 - الثلثاء 29 يناير 2008م الموافق 20 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً