في السياسة هناك سياسة التفاوض، وهناك سياسة العصا والجزرة، وهناك سياسة المناورة و«الهروب الكبير»!
كثيرون من أبناء جيلنا ربما عاشوا التجربة الأخيرة عمليا في طفولتهم، فعندما تصادفهم سحليةٌ تتسلق جدار أحد البيوت القديمة، فإنهم يسرعون إلى ضربها بالحجارة أو العصا. وفي كل مرةٍ، ينفصل منها ذيلها ويسقط على الأرض يتلوّى فينشغل بحركته الصبيان، بينما تهرب السحلية بجلدها!
الآن... كبرنا وعرفنا بعض الأشياء الخافية، وتعرّفنا على أنواع مختلفة من السحالي و«الكلاب» و«الخرفان»، والتسميتان الأخيرتان ليست من أدبيات «المعارضة» وإنما يطلقها على أتباعهم بعض أصحاب النفوذ والشأن. والتسمية لم يُطلقوها جزافا، وإنّما هي توصيفٌ دقيقٌ لواقع الحال والعلاقة بين الطرفين. فهناك مراكز قوى خفية تعمل وراء الستار، والذي يظهر في الصورة هو هذا الوجه المتجهِّم أو ذاك.
ليست جديدة هذه الحروب المفتعلة والإثارات الطائفية التي تشاهدون بعض دخانها اليوم، فهناك أدوارٌ قذرةٌ يقوم بها بعض «الكومبارس» الصغار لمصلحة آخرين، تماما كما يحدث في الأفلام، إذ يتم استئجار بعض الكومبارس لأداء الأدوار الخطيرة التي يُخشى منها على الممثلين الحقيقيين. وطبعا ليس هناك دورٌ يُؤدّى مجانا، وإنما مقابل كل دورٍ أجرةٌ وجرايةٌ و«شيكات».
هل نسيتم؟ قبل عامٍ، وفي مثل هذه الأيام، استبقت إحداهن موسم عاشوراء بترويج كذبةٍ كبرى تقول إن «المآتم أصبحت مخازن للأسلحة»، ولما انكشفت الحقيقة للرأي العام انكبتت لعدة أشهر، لتعاود لعب الدور القذر بالدعوة إلى إصدار قانون لقمع الصحافة وإسكات الصحافيين، حتى أصدرت «جمعية الصحافيين» بيانا استنكرت فيه هذا الموقف الرجعي المتخلف.
في هذا الموسم، أعطي الدور لـ «كومبارس» آخرين، بحسب خطة محدّدة، تستهدف إثارة الشارع وحقنه بمادةٍ شديدة الاشتعال، عبر التعرّض بالإهانة المتعمّدة إلى الرموز الدينية التي تحظى باحترام قطاع عريض من الجمهور، فيكتب أحد الفطاحل بأنه «كان يحترم الشيخ ولكن...»، ويرقص على ذات النوتةبقية الكومبارس!
السيناريو واضح المعالم... التعرّض للمؤسسات الدينية كما حدث العام الماضي، واستهداف كبار الشخصيات في المجتمع، ومحاولات التسقيط الممنهجة للرموز والشخصيات الدينية المستقلة، والهدف إشغال الشارع والبرلمان والصحافة بهذه القضايا، ودفع المجتمع إلى حفرةٍ ليس لها قاع. المسألة في ظاهرها تسليط شخصٍ ساقطٍ لا يمكن ائتمانه بوّابا على عمارة، وتعديه على رموز دينية كبيرة، لكنها في الباطن تهدف إلى قضية أكبر: إلهاء الشارع والجمعيات والبرلمان والصحافة بقضايا وحروبٍ جانبيةٍ عن إدارة «بيت المال».
المطلوب اليوم أن ينشغل الجميع في الردّ على هذا السفيه أو ذاك، وينسوا قضايا المال العام، وسرقة الأراضي في وضح النهار؛ و«التمييز الوظيفي» الذي يتضرّر منه الوطن في حاضره ومستقبله؛ وعن جريمة «التجنيس» التي ستوفِّر الكثير من الحطب للنار المقبلة، مع صمت وتواطؤ الكتل «الثلاث» بما يخالف المصلحة الوطنية العليا.
المطلوب اليوم إشغال «الوفاق» في البرلمان، وتحويل اهتمامها عن «ملكية الأراضي»، والمال العام، و«مساءلة الفساد»، وهي قضايا تهمُّ كل المواطنين بلا استثناء، من مختلف المذاهب والطوائف والملل، لأنها ستؤثر على مستقبل البلد والأبناء.
السيناريو واضح، والأدوار محدّدة، والكومبارس تسلموا «شيكاتهم» مقدما، فانفصلت أذيالهم وأخذت تتلوى على الأرض لتشغلكم، بينما فرّت «الحمامة» بجلدها، فالأهم ألاّ يُفتح ملف الأراضي والأموال.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1970 - الأحد 27 يناير 2008م الموافق 18 محرم 1429هـ