رحل جورج حبش عن عمر 82 سنة في عمَّان قبل أن يحقق هدفه: العودة إلى فلسطين.
مأساة حبش المسيحي الولادة، القومي التفكير، الماركسي المنهج، الإسلامي الثقافة تلخص ذاك المشهد التراجيدي الذي عاشته أجيال النكبة الفلسطينية العربية. فهذا الرجل المكافح الذي عاش سنواته الطوال في عمان ودمشق وبيروت يحلم بالعودة إلى أرض أجداده في رحلة لا تبعد بالسيارة أكثر من 82 دقيقة فذهب عن الدنيا ولم يحقق مراده. 82 عاما من المعاناة لم تكن كافية لتحقيق رحلة لا تتجاوز مدتها 82 دقيقة من الأمكنة التي قضى عمره فيها بحثا عن وسائل أخرى تسهل له التوصل إلى الحلم.
مأساة حبش تختصر تلك المسافة الجغرافية القصيرة بين عمان والقدس، بيروت وعكا، دمشق وطبريا. فالمسافة القصيرة كانت تعترضها مساحات دهرية طويلة تمنع الشعب المطرود من العودة إلى دياره. انتظر حبش طويلا واختزل عمره بحثا عن ممر آمن يسمح له بالعودة من دون اعتراف بالاحتلال أو مصافحة العدو... وعبثا وجد ذاك الطريق.
طريق حبش إلى فلسطين تعطي فكرة موجزة عن عناوين رحلة سياسية عاشتها المنطقة العربية، وتحديدا دول الجوار، على مدار حقبات زمنية أخذت الذاكرة الجمعية تطويها في زاوية النسيان. فالطريق كما يبدو طويلة وأبعد من العمر الافتراضي للإنسان. وهذا الأمر أضاف إلى ذاكرة الأجيال التي عاصرت مباشرة تداعيات النكبة المزيد من الشقاء.
الحياة الشقية التي عاشها حبش لا يمكن فصلها عن الوعي الشقي الذي يلازم عادة النخبة المثقفة التي تختارها المصادفات لتتحمل مسئولية اتخاذ القرار في لحظة اليأس أو في زمن البؤس. وحبش الذي ولد في اللد في العام 1926 كان نصيبه في لحظة شبابه أن يكون ضحية مأساة لا مثيل لها في القرن العشرين.
حبش الشاب كان بدأ في العام 1944 دراسة الطب في الجامعة الأميركية في بيروت وأخذ يتعرف من خلال أساتذته على الفكر القومي وأهمية الوحدة ودورها في منع الانهيار. هذا الشاب الذي تخرج طبيبا للأطفال في العام 1951 وجد نفسه أسير نكبة. فالنكبة منعته من العودة إلى دياره لممارسة مهنته.
ابن اللد لم يعد بإمكانه الذهاب مجددا إلى بلدته. فاللد التي استولى عليها الصهاينة تحولت إلى مطار دولي حمل اسم «بن غوريون» لاحقا. وبن غوريون الذي أصبح رئيس وزراء ادعى أن فلسطين «أرض الميعاد» وعلى الشعب الفلسطيني البحث عن وطن بديل.
الاستيلاء والاقتلاع والطرد ومنع العودة... تشكل مجتمعة عناوين نكبة ستتحول لاحقا إلى حجر زاوية في اليقظة العربية المعاصرة. فالمأساة طرحت على ذاك الجيل الشاب الذي صفعته هزيمة منكرة السؤال: ماذا نفعل؟
«ماذا نفعل» فتح الباب على طريق طويل وسؤال آخر: كيف نرد؟ وعلى هذا السؤال التأسيسي ابتدأ جورج حبش بحثه عن إجابة تعطيه فرصة للتأمل ولا تقطع عنه درب الأمل.
حلم العودة شكل حلقة مركزية في تفكير حبش السياسي. فهذا الشاب الذي بدأ نشاطه بالجمع بين مهنة الطب وتحريض الجموع النازحة على التوحد تمهيدا للعودة اكتشف بعد حين صعوبة الاستمرار في الربط بين الحرفة والقضية. وهكذا قرر اعتزال المهنة والتفرغ للعمل السياسي في اعتبار أن القضية لا تستحق التأجيل.
كانت خطوة حبش الأولى في عالم الاحتراف السياسي المشاركة في تأسيس «حركة القوميين العرب». وبدأت الخطوة الأولى في المزج بين مزاولة المهنة والعمل النضالي من العام 1951 إلى 1957. وخلال هذه الفترة الوجيزة تلخص برنامج الحركة القومية الكفاحي في نقطة مركزية وهي «الثأر». وشكلت فكرة «الثأر» مادة حيوية للتحريض وحث الناس على عدم اليأس والعمل على تشكيل قوة مسلحة تستخدم النار وسيلة للانتقام والعودة.
خطوة «الثأر» كانت عفوية. وتعتبر في السياسة بداية لابد منها لإعادة قراءة المسألة الفلسطينية في تعقيداتها وصعوباتها. وشكلت خطوة «الثأر» قاعدة انطلاق لإعادة تشكيل رؤية قومية عامة ترافقت مع انتصار مصر الناصرية في معركة قناة السويس وفشل الاستعمار الانكلوفوني (الانجليزي/ الفرنسي) المتحالف مع «إسرائيل» في تحقيق غاياته التقويضية.
معركة السويس فتحت الباب للتواصل بين جمال عبدالناصر والحركة القومية العربية. ومن هذا المدخل التاريخي بدأ حبش يطور رؤيته الأيديولوجية بالانتقال من «الثأر» إلى «الوحدة». فالوحدة العربية هي الإطار السياسي الذي يضمن تحقيق العودة. ومن دون وحدة تجمع العرب تصبح إمكانات التحرير معدومة أو معطلة.
القومية والماركسية
شكلت التجربة الناصرية في مصر ذاك النموذج المنير في عالم الظلمة العربي. واتخذت حركة القوميين العرب من عبدالناصر المثال السياسي الذي يجب أن يحتذى لتحقيق حلم العودة. ونجح التحالف القومي (الحركي) الناصري (المصري) في تشكيل تيار جماهيري جرف المشاعر ووحدها من المحيط إلى الخليج. واستمر هذا التحالف الثنائي مدة عشر سنوات يساهم في توليد قناعات كانت تؤكد دائما أهمية الوحدة القومية وضرورتها التاريخية لتأمين وسائل التحرير.
هذا التحالف الرسمي - الشعبي انتهى فجأة عقب هزيمة يونيو/ حزيران 1967. فالهزيمة أسقطت نظرية الوحدة أولا وساهمت في إعادة إنتاج نظرية التحرير أولا.
الفارق بين الهزيمة وتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نصف سنة فقط. فخلال هذه الفترة الزمنية القصيرة أقدمت حركة القوميين العرب على تقييم تجربتها السياسية منذ النكبة إلى الهزيمة وانتهت بخلاصات جدلية جمعت بين الوحدة وتغيير طبيعة الأنظمة العربية وبين الكفاح المسلح والتحرير. وانتهى أمر الحركة بالتشرذم والتفكك والانقسام إلى وحدات تنظيمية قطرية (محلية) أو قومية تغلب الموضوع الفلسطيني على رأس جدول أولوياتها السياسية.
شكلت «الماركسية» نقطة تحول أيديولوجية في تاريخ القوميين العرب ولعبت الفكرة دورها في تحطيم الوحدة التنظيمية للحركة بين تيار يؤكد تمسكه بالمنهج القومي وتيار يرى في القومية نظرية تعطل إمكانات تطوير الثورة المسلحة وتؤخر فترة التحرير.
جورج حبش اتخذ آنذاك موقف الوسط بين القومية والماركسية. وساهم موقعه الجدلي في تكوين أيديولوجية توفق في البرنامج بين التحرير والوحدة. ولكن ظروف المنطقة والبؤر الثورية (كوبا، فيتنام) والفضاءات الدولية (الاتحاد السوفياتي، الصين) أعطت قوة معنوية للتيار الماركسي في التقدم لاكتساح خلايا حركة القوميين العرب. ونجح التيار اليساري في إضعاف وحدة الحركة حين بدأت الخلايا تنفصل وتؤسس تنظيمات قطرية (محلية) في اليمن والخليج ولبنان (منظمة العمل الشيوعي) وفلسطين (الجبهة الديمقراطية). ولكن حبش واصل ربطه الجدلي بين النظريتين (الماركسية والقومية) مقدما في هذه المرحلة فكرة التحرير على الوحدة.
استمر نشاط جورج حبش في إطارين الأول قومي (حزب العمل العربي الاشتراكي) والثاني قطري (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين). وتحت الإطارين نشط الحزب بالتكافل مع الجبهة إلى أن وقعت حوادث الأردن في سبتمبر/ أيلول 1970 واتهم حبش بإثارتها حين أقدم فصيله على خطف ثلاث طائرات مدنية إلى مهبط في بادية الأردن أطلق عليه «مطار الثورة».
لم يصمد مطار الثورة طويلا، إذ انهار مع انهيار مواقع منظمة التحرير الفلسطينية فاضطرت الفصائل إلى نقل مراكزها إلى لبنان. وفي لبنان، شهدت الثورة متغيرات كثيرة تركزت على مواجهات مفتوحة في الجنوب (مقاومة الاحتلال عسكريا) وفي بيروت (مقاومة النظام)، إلى أن انهارت الدولة اللبنانية واندلعت على اثرها تلك الحروب المتواصلة (الأهلية والإقليمية) من العام 1975 إلى لحظة الاجتياح الإسرائيلي وتطويق بيروت في العام 1982.
خلال الحصار حصلت لقاءات كثيرة مع جورج حبش وغيره من قيادات الصف الأول من منظمة التحرير الفلسطينية. وجرت في تلك الفترة سجالات ونقاشات نظرية بهدف إعادة تقييم تجربة انتهت عمليا باجتياح «إسرائيل» وتهديد العاصمة اللبنانية بالسقوط. آنذاك أخذت صحة حبش تتدهور بعد تعرضها لنوبات قلب طفيفة. ولكن صلابة الرجل وايمانه بالعودة والتحرير والوحدة لم تتزعزع. فالفكرة على أنواعها وتلاوينها كانت راسخة وعميقة ويصعب اقتلاعها من العقل والوجدان في وقت كان جيش الاجتياح الإسرائيلي يمطر بيروت بأكثر من مئة ألف صاروخ وقذيفة يوميا. فالنيران المشتعلة في الشوارع والأحياء والمنازل لم تخفف من تلك النار التي أشعلتها الصهيونية حين استولت على فلسطين قبل 34 عاما. الآن مضت 26 سنة على اجتياح بيروت وتنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا وترحيل قوات منظمة التحرير والجبهة الشعبية خارج العاصمة وتشتيتها على ثماني دول عربية. غادر حبش بيروت قبل 26 سنة وفلسطين قبل 60 سنة والدنيا بعد 82 عاما... بينما المسافة التي تفصله عن اللد لا تحتاج إلى 82 دقيقة للوصول إليها. وعدم القدرة على اجتياز تلك الرحلة القصيرة يلخص الكثير من عناوين النكبة.
إنها مأساة فرد وهي في جوهرها تشكل الوجه الآخر للنكبة. فهذا الرجل لم يفرط بقناعاته ولم يشعر لحظة بأنه ليس على حق. فالحق الذي ترسخ منذ لحظة الاندفاع الأولى بأخذ الثأر لم يتراجع حتى حين دخل الشاب في محطات أيديولوجية قومية وناصرية وماركسية. فلسطين كانت الهدف وهي الثابت الذي جمع كل المتغيرات في لحظات انتقل فيها الطفل المسيحي المولد إلى الشاب القومي والكهل الماركسي وأخيرا الشيخ الثوري. فهذا الجمع بين التعارضات ليس تناقضا وإنما يعطي فكرة موجزة عن محطات مرت بها أجيال النكبة الفلسطينية العربية... ولاتزال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1970 - الأحد 27 يناير 2008م الموافق 18 محرم 1429هـ