أشد ما لامسته إيلاما ومضاضة من خلال تطرقي لمختلف الموضوعات والقضايا ذات الأبعاد المتعددة والمرتبطة أساسا باتباع الدولة سياسة «لوثة التجنيس» في هذه البلاد لربما هو ما يمكن وصفه بتنامي وتصاعد محموم لثقافة التطرف برؤاها العدمية الخطيرة تجاه تناول مثل هذا الموضوع المصيري والملف الحساس.
ومثل هذه الثقافة المتطرفة برؤاها العدمية المشحونة بحدية تصادمية ومتنافرة في آنٍ واحد لا يمكن أن تصنف أو تفرز طائفيا وفئويا، فهنالك حالة عامة من السأم والأسى والنقمة تتصاعد بحمية بين السنة والشيعة لا يمكن التقليل من شأنها، بل إن هذه الحالة من الممكن أن تتلمسها لدى من حصل على الجنسية باستحقاق قانوني وسليم متعارف عليه، وتلك النقمة الشعبية والجماهيرية تغلي وتتوحد ضد لوثة التجنيس وما تشكله من إهانة مجرمة للذات والهوية البحرينية، وتجاه من كان وراءها نتيجة المشاهدات والتعاملات اليومية مع حصاد هذه السياسات المجنونة والمدمرة على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة.
فحين الحديث عن «لوثة التجنيس» ودوافعها السياسية وحصادها الوبيل عادة ما يجابه المتحدث بآراء كثيرة متطرفة أكثرها يصب في خانة «طرد وترحيل واقتلاع المجنسين الذي استجلبتهم إلى بلادنا سياسات لوثة التجنيس وإرسالهم إلى ديارهم قسرا وإلى غير رجعة»، ورأي آخر يرى في «سحب الجنسيات منهم ولو كان ذلك من أدنى شبهة جنائية لكونهم لا يستحقونها أساسا» أو «إخضاعهم بالقوة»، وهناك آراء قد تبدو مختلفة لدى أطراف أخرى متمصلحة من هذه السياسة نظير ما تحققه من مكاسب مادية من «المتجنسين» الذين يدفعون لها مبالغ الأجرة السكنية وغيرها من مبالغ، إلا أنك وما ان تحصر هروبهم وتنصلهم من الواقع والمواقعات اليومية حتى يجيبونك باستسلام «الله يجازي من كان السبب في ذلك» أو «لقمة العيش ولا يوجد لها أي سبيل آخر»!
وأشهد أنني تسلمت رسالة من أحد الإخوة الأعزاء من منطقة الرفاع وقد أرسلها معاتبا لي على «تقصيري في تناول موضوع لوثة التجنيس» وكان قد كتب فيها بالحرف الواحد «هيهات أن يحدث هنالك أي تطبيع مع المستوطنين ولو جعل عاليها سافلها»، وخصوصا أن صاحب الرسالة طالما كان شاهدا على المشكلات التي يتسبب بها حصاد لوثات التجنيس، وهي في غالبيتها مشكلات أخلاقية خادشة للحياء والرأي العام فيما يفوق الوصف على رغم كونها تجري في المحلات والمرافق العامة من قبل البعض ممن قدم «خدمات جليلة للوطن»!
وربما لا يكتنفني أدنى استغراب من أن سبب ذلك التطرف والمقت والتقزز النامي بقوة في أوساط السنة والشيعة خصوصا تجاه لوثة التجنيس لا يمكن أن يرجع فقط إلى إحساس ومنبه وجودي سلبي بذوبان وتلاشي هوية البلاد وسمة شعبها الفارقة وابتذال قيمها الثقافية والحضارية، كما أنه يعود إلى فقدان الثقة بالدولة التي تبدو للأسف وكأنما هي بوارد البحث عن أبناء ومواطنين آخرين بحسب أذواقها وأهوائها السياسية، وحبذا لو أنها لجأت إلى استنساخ المواطنين البحرينيين وإن تلاعبت بهم جينيا فإنني والله أجزم وأقسم أنها لن تجد خيرا من هذا البحريني وأفضل منه وأرقاه طيبة وانفتاحا وسماحة ولو دارت جميع أنحاء العالم والمجرة!
وفيما يتعلق بالنقمة البالغة التطرف والتحدي لدى الإخوة السنة، فإن مكمنها يرجع إلى المعايشة اليومية التي يعانون منها مع حصاد لوثة التجنيس والمزاحمات الشديدة لهم في فرص الحياة اليومية، وخصوصا في سلكي الخدمة العسكرية والشرطة، فهناك في المناطق السنية المغلقة والتي يقطنها المجنسون ازدياد في مظاهر التسول والشحاذة يجد فيها المواطن من يشحذ منه لحمة أو شحمة أو دهنا أو حفاظات وبسكويت أطفال، وهناك من يشتكي من صرف «العيدية» التي توجد هنالك جيوش من الأطفال لا تكاد أن تفرق بين أفرادها شكلا أو مظهرا في كثير من الأحيان وأكثرهم من المتسولين والشحاذين الذين يطالبون بـ «عيديتهم» حتى في عاشر يوم من أيام العيد!
بالإضافة إلى ما تشكله لوثة التجنيس وحصادها الوبيل من إهدار تنموي وتضييع للمكاسب التنموية ولآثار «المكارم» المزعومة أو بالأحرى هي حقوق المواطنين المغلوبين على أمرهم والذين وجدوا لهم من يقاسمهم بشراسة على كسرات حقوقهم تلك!
ناهيك من سخط كبير وحنق مكبوت يتزايد باطراد لدى المواطنين، وخصوصا المنتمين منهم إلى مذهب أهل السنة والجماعة تحديدا، وذلك تجاه نواب المراكز العامة ونواب الرشا العامة وغيرهم من نواب زيادة العدد ونواب «العازة السياسية والمعيشية» الذين يبتلعون ألسنتهم و «يأكلون تبنا أحمر» كلما طرق طارق موضع وقضية «لوثة التجنيس» وما تشكله من همٍّ وصداع يومي، فأمثال هؤلاء من المرتزقة نيابيا هم من وصلوا ويصلون ويعولون على الوصول مرة أخرى إلى كراسي البرلمان بالاستفادة من أصوات «لوثة التجنيس» والمجنسين المجيرة سياسيا تجاه دعمهم، والتي ربما يسهل حصادها إما منَّة بمنح الجنسية، أو إخطار سياسي مسبق، كما يسهل شراؤها ربما بمعدل خمسة دنانير بحرينية للصوت الواحد ومعه «نصف درزن سمبوسة»!
وربما يتذكر القراء الأعزاء خبر أحد المترشحين إلى البرلمان من نتاج حصاد لوثة التجنيس، وكيف قام حينها في مقابلة صحافية مع إحدى الصحف بتسفيه ومهاجمة جميع «الجمعيات السياسية»، والتشديد على الولاء والانصياع الأعمى للسلطة التنفيذية (الحكومة)، وحينما سئل عن برنامجه التشريعي أجاب على الفور بأنه «لن يختلف عن مطالب وتوجهات الحكومة أبدا»!
وما يمثله هذا المترشح من حالة لا يمكن أن يكون طرفة أو محلا للسخرية والتهكم وإنما هو حالة وتمثيل واقعي سليم لمن أتى من مجتمعات رعوية وبدوية ذات فكر رجعي وبدائي لا يمكن مقارنتها أبدا بتحضر ومدنية المجتمع البحريني وريادته التقدمية على الأصعدة كافة، فأن تقوم بتبديل الأسماك من بيئة إلى بيئة أخرى إنما هو انتحار وتعفن بيولوجي متشنج لا يمكن أن يكون موضوعا للاستطراف، وخصوصا إن كان بعض أصحابنا ممن جلبتهم إلى بلادنا سياسات لوثة التجنيس هم من تلك الفئات والجماعات التي فشلت من قبل مجتمعاتهم الأصلية في استيعابهم، ولم يستوعبهم حتى كيان الدولة ومؤسساتها ومنظمات المجتمع المدني في بلدهم الأم، فكان تجنيسهم ضربة مسمومة وقاصمة لسيرورة التقدم الاجتماعي في البحرين والمتضافرة مع مجيء المشروع الإصلاحي لعاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة!
إذا لوثة التجنيس، وبالبنط الأحمر العريض، هي خطر يتهدد المشروع الإصلاحي، وقبلها خطر يتهدد عملية التقدم الاجتماعي والسياسي والتنمية الاقتصادية في هذه البلاد المبتلاة، فكيف يمكن لحافظ الشيخ وأمثاله أن يتحدثوا بعدها عن «مكسب استراتيجي»، وكأنما هم يتعاملون في تفكيرهم «الاستراتيجي» المزعوم مع البحرين كالسيارة «الكرمبع» التي بحاجة إلى تبديل زيت «مو أصلي»!
لِمَ لا ينصح بعض الكتاب الذين وقفوا ويقفون وراء لوثة التجنيس السياسية أن يتأسوا بسياسة الشقيقة قطر في التجنيس والتي تسعى إلى جذب أفضل الكوادر العلمية والمعرفية والرياضية من مختلف أنحاء العالم على أمل الاستفادة منها ولتعزيز دور قطر ومواقفها تجاه خدمة المجتمع الدولي والإنسانية جمعاء، أو أن يقتدوا بوضوح وشفافية وصرامة الشقيقة الكويت في منح شرف جنسيتها؟!
لا أظن أن هؤلاء الكتاب وأمثالهم يعيشون في كوكب ومجرة أخرى؟! ولا أنكر أن المسار الوحيد المتبقي أمام فئة «المتجنسين» وأعني بهم من وجد في البحرين ضالته عبر سياسات لوثة التجنيس المتبعة في حق الوطن والمواطن، وربما وجد نفسه فردا ينتمي إلى فئة وجماعة متطفلة على المجتمع البحريني، أن يستفيد من إثارة التوترات الطائفية والإثنية في هذا المجتمع بعلاقة تطفلية تدمن إثارة الفتن الطائفية والإثنية والعصبية كشرايين الوجود لإمداد هذا الوجود الإحلالي الغريب في الجسد البحريني، فالمتجنس للأسف سيلعب على وتر إقناع وتزييف وعي السني بأنه خير عضيد وحليف طائفي له ضد «المد الشيعي» وضد «المد الصفوي»، فمرحبا حينها بـ «المد السني»، واذهب إلى الجحيم يا وطن!
ومن الطبيعي أمام ما تشكله جيوب «لوثة التجنيس» من لغم ناسف في قلب المجتمع البحريني، فإنه من المتوقع أن تطرح في الساحات والملتقيات خيارات مجابهة ومعالجة آثار وعقابيل لوثة التجنيس المريرة مثل تشجيع المجنسين على «الاندماج الاجتماعي»، أو «عزل المتجنسين في مدن معزولة»!
وبالنسبة إلى خيار الدمج الاجتماعي، فإنني أراه خيارا فات أوانه ولم يعد مجديا وخصوصا أن خيار الدمج الاجتماعي لا يمكن حصره في «لبس شماغ وغترة» أو «تغيير الأسماء» والتأديب والتهذيب والتعليم والثقيف، وإنما هو نتاج تصاهر طويل ضمن علاقات تفاعل بناء بين فرد وبيئة معينة لعقود من السنين، أفلا يعلمون أن الطبع دوما يغلب التطبع أو «التطبيع» كما قال أخونا الرفاعي العزيز على رغم تطرفه؟!
أما بالنسبة إلى خيار «العزل الاجتماعي» و «إسكان المتجنسين في مناطق ومدن معزولة» فهو ليس إلا التفاف على الأزمة وصب للزيت على النار، وإن صحت الأنباء المتداولة شعبيا عن اتجاه الدولة لتبني هذا الخيار الأخير وحصره تجاه فئة معينة من «المتجنسين»، فإنما هو يعني عزم الدولة على خلق طائفة ثالثة ومدللة في هذا البلد مهما كان الثمن، وهو قد يعني «دولة أخرى للمماليك» و «إحياء للطبقة الانكشارية» واحتفاء بـ «شعب السلطة المختار»!
ونحن نقول إن «لوثة التجنيس» هي خيار مبتدع وسيئ وهدام ومجنون إلى درجة أنه لم تأخذ به قط سلطات الاحتلال البريطانية ضد الشعب البحريني، وإن كانت قد احتفت بفئات معينة ساهمت في جلبهم معها من خبراء وفنيين من الخارج، وإن اتبعت حينها سياسة «فرق تسد» للإحكام على خناق المجتمع والدولة معا والتحكم في سياساته الداخلية والخارجية!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1970 - الأحد 27 يناير 2008م الموافق 18 محرم 1429هـ