لم تكن تلك هي النتيجة التي توقعها القاضي عبدالفتاح مراد عندما طلب بتاريخ 28 فبراير/ شباط من العام الماضي من السلطات المصرية منع أكثر من خمسين موقعا على الإنترنت، مدّعيا أنها تهدد الأمن الوطني وتهين الرئيس، بل وتشوِّه سمعته الشخصية.
وعندما رفضت فروع الحكومة المسئولة الالتزام بمطالب القاضي رفَع مراد القضية إلى محكمة مصر القضائية الإدارية.
ولكن في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2007، صنعت القضية رقم 15575 - وهي قضية الـ 51 موقعا على الإنترنت - التاريخ عندما حكمت المحكمة القضائية الإدارية ضد القاضي مراد بناء على المادة 47 من الدستور المصري التي تنص على أن «حرية التعبير مقدسة».
يحكم هذا القرار التاريخي، الذي استغرق صدوره فترة عشرة شهور، مبدآن إثنان، الأول: أنه يُسمح للحكومة منع وإغلاق مواقع الإنترنت، ولكن فقط إذا كانت تعرّض الأمن الوطني للخطر أو المصلحة العليا للدولة، بصدق وبشكل فعلي، والثاني: هو أن الشتم والإهانات وتشويه السمعة لا يمكن اعتبارها أسبابا لإغلاق موقع، حتى ولو كانت عرضة للمسئولية المدنية أو الجزائية.
عند قراءة قرار المحكمة يلاحظ المرء فورا أن المحكمة حكمت وعينها على الدستور، وأنها حاولت الوصول إلى روح الدستور وجوهره، كما كان هدف الذين وضعوا الدستور.
وقد اعتمدت المحكمة في قرارها على المادة 47 من الدستور التي تنص على أن «حرية التعبير مقدسة، ويملك كل مواطن الحق في التعبير عن رأيه شفويا أو خطيا أو عبر الأساليب المتوافرة، محترما القانون ومنتقدا ذاته ومن خلال النقد البنّاء لضمان خير الدولة ومصلحتها».
(ومن المفيد ملاحظة أن هذه المادة هي المادة 28 من الدستور السوري نفسها).
في شرح مسهب لقرارها، أعلنت المحكمة بشجاعة أن حرية التعبير هي أمر أساسي وأن القيود التي فرضها المشرعون على تلك الحرية تعارض الدستور الذي يضمن حماية حرية الكلام، وبالتالي يجب عدم استخدامه إلا في الحالات الطارئة.
تمشيا مع هذا القرار اعتبرت المحكمة أن رفض الإدارة مطالب القاضي إغلاق المواقع الإلكترونية يظهر أن الإدارة أخذت منحى نحو تفسير المحكمة نفسها لحرية التعبير، وأن استثناء الطوارئ لا ينطبق في هذه الحالة.
وتنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل إنسان «الحق في حرية التعبير وإبداء الرأي، وينطوي الحق على الحرية في تشكيل الآراء من دون تدخّل، والبحث عن وتسلّم والحصول على معلومات وأفكار عبر أية وسيلة أو وسيط بغض النظر عن الحدود» طالما أنه يلتزم بالقانون.
وقد أشارت المحكمة إلى أن المادة 49 من الدستور المصري تلتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
كما اعترفت المحكمة بوجود فجوة دستورية في التعامل مع مواقع الإنترنت، إذ إن القانون المصري لا يذكر المواقع الإلكترونية ولا يضع أية قوانين أو أنظمة لمنعها.
وقد أشارت المحكمة في هذا المعرض إلى أن «هذا النقص الدستوري لا ينكر حق الحكومة في منع هذه المواقع عندما تهدد الأمن الوطني أو مصالح الدولة، إذا أخذنا في الاعتبار سلطة الحكومة في فرض القيود الإدارية لحماية النظام العام الذي ينعكس في الأمن العام والصحة العامة والسلام العام».
أما في حالة مطلب القاضي مراد، ومع الأخذ بالاعتبار الفجوة الدستورية واحترام حكم الأولويات في حالة وجود نزاع، فقد حكمت المحكمة لصالح حرية التعبير.
كما أخذت المحكمة في الاعتبار بأنه يمكن محاكمة الاتهامات بتشويه السمعة في المحاكم المدنية والجزائية، ولكنها أقرّت بأنها ليست أسبابا كافية لإغلاق مواقع الإنترنت.
يشكل قرار المحكمة المصرية تذكيرا بمدى إلحاح الوضع في سورية، إذ جرى إغلاق أكثر من مئة موقع على شبكة الإنترنت في الشهور القليلة الماضية نتيجة لمذكرة أصدرتها وزارة الاتصالات. وتسمح المذكرة بإغلاق مواقع الإنترنت من دون الحاجة إلى تقديم إثباتات على تشويه السمعة أو الحصول على قرار محكمة.
يشكل القرار المصري، بالمقارنة، تعبيرا صادقا عن رغبة المشرّع ويجري تفسيره وشرحه بشكل مفصّل. لا نستطيع سوى أن نأمل أن يتبع نظامنا التشريعي يوما ما المثال المصري ويختار جانب حرية التعبير تمشيا مع الدستور.
* محامٍ ومراسل سورية لـ «menassat.com»، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1970 - الأحد 27 يناير 2008م الموافق 18 محرم 1429هـ