يذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة هذا الموقف بين الإمام علي (ع) وقوم من المسلمين، جاءوا له بعد توليه الخلافة، وقلوبهم مليئة بالتوجسات منه، وذلك يعود لكونهم قد نالوا سابقا أموالا طائلة من دون وجه حق، وإنما بتمييزهم عن غيرهم من بقية المسلمين، فخافوا أن يسترجعها الإمام منهم. انتدبوا أحدهم للحديث، فقال: «يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعا»، وراح يعدد مواقف الإمام من قتل آبائهم المشركين يوم بدر وغيرها من مواقف، ثم أكمل له بلغة استعطافية: «ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف»، بعدها عرضوا عليه أن يبايعوه بشرط أن يتركهم وما أصابوه في العهد السابق من أموال، كالأراضي وغيرها؛ بعد ذلك استخدموا لغة التهديد إن لم ينزل عند رغبتهم فقالوا: «وإنا إن خفناك تركناك، فالتحقنا بالشام» أما الإمام فردّ عليهم ومما قاله: «أما ما ذكرتم من وترى إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم».
موقف أولئك القوم أهون من موقف النواب الرافضين لمجرد التحقيق في وجود التمييز الوظيفي، فإذا كان أولئك أرادوا فقط أن يقرّهم الإمام (ع) على نتائج التمييز الموجودة تحت أيديهم من أموال عامة، فإن هؤلاء النواب، بموقفهم هذا يساهمون في تكريس وضع ظالم، ووضع خطوط حمراء حوله، حماية وصونا له. بالأمس في الفصل التشريعي الأول، حين كانت المعارضة مقاطعة، رفضوا مقترحا بإصدار قانون يجرّم التمييز، واليوم يرفضون مجرد التحقيق في وجود التمييز في الوظائف. هذا الموقف السلبي لا يسهم في مجرد التجاوز عن الواقع الحالي، بل سيدفع لمد هذا الواقع بأسباب البقاء ليشمل المستقبل، ولتكون حالة دائمة. حجج بعضهم تدلل على مدى الإفلاس ووجع الرأس الذي أوقعوا أنفسهم فيه، كنفي أحدهم وجود تمييز بالمرة، ويرفض التحقيق على أساس أنه تحقيق في لا شيء! وآخر أقرب للإنصاف حين أقرّ بوجود التمييز على كل المستويات، وليس المستوى الطائفي فقط، ولكنه يتوجس خيفة من الفتنة الطائفية. من يسمع هذه الحجة تمتلئ مخيلته بالسيوف والحراب والسكاكين، ويتصور أن الناس قد وضعوا أيديهم على قوائم سيوفهم، ينتظرون لحظة صدور نتيجة التحقيق حتى يخرجوا في الشوارع، يسفك بعضهم دماء بعض. ينبغي أن يعي هؤلاء النواب حقيقة مهمة، فإن كانوا يعتقدون أن دخول المعارضة لمجلس النواب يعطي شرعية للأوضاع الخاطئة، فهم واهمون بل يعيشون في وهم كبير جدا، فحتى لو كان المتضررون من التمييز ليسوا غالبية الشعب كما هو الواقع القائم، بل حتى لو كانوا فقط 10 في المئة من الشعب، فلن تستطيع كل الدنيا أن تطالبهم بالسكوت.
يبدو أن بعض القوم - ولا أعمم - قد ألفوا وضعا مرضيا لا يودون مفارقته؛ أدمنوا التمييز، وكرهوا المساواة كما يكره المريض الدواء، ويشعر بمرارة الماء الزلال. وضعا كرّسته سياسات رسمية سابقة، وغذته بمختلف الوسائل، حتى أصابت نفوس المستفيدين منه بالمرض العضال، فلو خُيّر أحدهم بأن يُعطى قصرا بدلا من البيت الذي هو فيه، بشرط إعطاء جاره صاحب الكوخ قصرا آخر، لفضّل البقاء في البيت ويبقى جاره في الكوخ كراهية للمساواة وعجزا عن مفارقة الإدمان على التمييز.
ينقل ابن أبي الحديد قول بعضهم لأمير المؤمنين (ع) مشخصا العلة وراء غضب بعض القوم عليه بعد أن رفض إقرارهم بما في أيديهم، وخرجوا يكيدون له: «وذاك لأنهم كرهوا الأسوة، وفقدوا الأثرة ولما آسيت بينهم وبين الأعاجم أنكروا...»، فهل يكرر التاريخ نفسه، أم نشهد من يمتلك الشجاعة ويسعى مع دعم التحقيق في التمييز الوظيفي؟
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1969 - السبت 26 يناير 2008م الموافق 17 محرم 1429هـ