حادث التفجير الذي أودى بحياة النقيب في فرع المعلومات التابع لقوى الأمن الداخلي وسام عيد رفع عدد الاغتيالات إلى رقم 14. ويأتي الحادث الأخير ليلقي الظلال على ملف التحقيقات التي كان عيد يتولى الإشراف على إدارتها ومتابعتها. والحادث يعتبر الثاني بعد 43 يوما من جريمة اغتيال مدير العمليات في الجيش اللبناني اللواء فرانسوا الحاج.
الحادثان الأخيران لافتان لكونهما يفتتحان مواجهة معلنة ضد المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن. فالأوّل رُبط بتداعيات معارك مخيّم «نهر البارد» وامتداداتها الإقليمية. والثاني رُبط بالمحكمة الدولية والتحقيقات التقنية المتصلّة بمجموع ملفات الاغتيال.
الجديد في جرائم التفجيرات والاغتيالات التي أودت بحياة العشرات أنّ المسلسل لم ولنْ يتوقف وأنه أخذ يتطوّر وينتقل باتجاه استهداف مواقع لها شأنها الخاص في ضبط الأمن ومنع الشارع من الانزلاق نحو مصادمات أهلية تتخوّف القوى المحلية والعربية والدولية من احتمال وقوعها.
الحادث الأخير لن يكون الأخير في اعتبار أنّ كلّ القوى على اختلافها من «8 آذار» إلى «14 آذار» أدانته واستنكرته وشجبته واعتبرته محاولة لزعزعة الاستقرار وتهديد الكيان. وحين تصل الأمور إلى هذه الدرجة من الاستخفاف بالعقول فمعنى ذلك أنّ الطرف «المجهول» المسئول عن الجرائم أصبح في موقع مريح يسمح له بارتكاب أفعاله وتدوينها في سجل التعازي من دون ملاحقة أو مطاردة. وتساوي الفاعل بالمفعول به يُعطي فرصة للفعل في استكمال أفعاله من دون رقيب أو حسيب. هذه المعادلة اللغوية في قواعد الإعراب ليست جديدة في عالم المخابرات وأجهزة الاغتيال وشبكات الاتصال. فهذا العالم معقد ومتداخل ومحكوم بجملة اعتبارات تقرأ السياسة بمنظار يخالف كلّ التوقعات. وبسبب طبيعة هذا العالم السفلي وعلاقاته السرية يستطيع اصطناع البراءة والظهور إلى العلن بألف لون ومئة لغة؛ لتضليل التحقيقات وربما توريطها بمعلومات كاذبة وتحليلات غير دقيقة حتى يستمر في أفعاله انطلاقا من قناعات ترى في «الاغتيال» وسيلة وحيدة لتغيير المعادلات وتعديل حقائق الواقع.
هذا العالم السفلي (السري) موجود في كلّ مكان وزمان وهو يعمل في دوائر وإطارات لا تدرك حتى في دول كبرى تعتقد أنها أنجزت شبكات الأمان وأصبحتْ في موقع متقدّم في كشف الملابسات وملاحظة المفارقات. ومشكلة لبنان، هذا البلد المسكين والمستضعف والمغلوب على أمره، أنه وقع في «كمّاشة» لا يستطيع التخلّص منها من دون دفع كلفة عالية من الضحايا.
بلد التعارضات
لبنان بلد التعارضات. ومثل هذا التكوين الديموغرافي/ السوسيولوجي يشكّل تلك الأرض الخصبة التي تعتمد عليها عادة شبكات سرية تعمل تحت الأرض وتستفيد من المواد الخام التي يحتاج إليها العالم السفلي لنمو سياسة تعتمد مبدأ القتل ستارا لتوجيه الرسائل أو تخويف الناس. فزّاعة الاغتيال مسألة مهمّة في عالم السياسة السفلي؛ لأنّها تشكّل واسطة للتأخير وربما للتغيير في حال توصّلت القوى إلى قناعة أنّها غير قادرة على فعل آخر لصد الهجمة ومنعها من النمو والانتشار والتوسّع. وهذا بالضبط ما تراهن عليه قوى الشّر التي تمعن في تكتيك القتل بوصفه العلاج الوحيد لمنع الإنسان من التفكير أو التحليل أو القراءة.
اغتيال عيد، وهو الضابط المسئول عن ملفات الاغتيالات التي عصفت بهذا البلد الصغير منذ العام 2004، إشارة قوية في سياق ترهيب القوى ومنعها من الاستمرار حتّى في التفكير بالجهة التي تخطط وتنفذ. وحين تنجح قفازات الاغتيال في التوصّل إلى استهداف الطرف المكلّف تقنيا في ملاحقة ملف الاغتيالات يكون المراد من «الفزّاعة» توجيه ضربة موجعة لكلّ الباحثين عن الحقيقة والتأكيد على عبثية المسألة.
الفكرة التي يمكن استخلاصها من الجريمة الأخيرة بسيطة في عناوينها السياسية. فهي تريد أنْ تقول للطرف الذي يتابع ملف الاغتيالات «لا تضيع وقتك وأموالك وجهودك. فالآلة مستمرة وغير عابئة وغير مكترثة. افعل ما تريد ونحن سنفعل ما نريد. وسترى مَنْ سينتصر في النهاية»!
هذه النتيجة العامّة تطرح أسئلة سياسية غامضة عن الطرف أو الأطراف التي تقف وراء الجرائم وتحدد الجهة أو الجهات المستفيدة منها. أوّل الأسئلة أنّ الطرف عابث وغير خائف. الأسئلة الثانية أنّ الطرف محترف وراسخ وقوي ومطمئن إلى نوعية شبكاته وقدراتها على تلبية الأوامر وتنفيذها بسرعة وتقنية عالية ومن دون أخطاء. وهذا يعني في المحصلة أنّ الجهة التي تخطط وتنفذ مرتاحة إلى شبكة تقاطعاتها وهي تقوم بمهمّات مرغوبة ومطلوبة ولا تزعج إلاّ المكان الصغير الذي تضرب فيه ضرباتها.
المسألة إذا تحتاج إلى قراءة دقيقة وربما اعتماد رؤية سياسية مغايرة للمتداول والمعهود. فحين تستمر آلة القتل من دون تعثر أو تردد وببساطة وهدوء أعصاب فمعنى ذلك أنّ الطرف المنفذ لا يعمل لمصلحته فقط وإنما يقدّم خدمات لجهات إقليمية ودولية لها مصلحة مشتركة في طمس الجرائم وإقفال ملف الاغتيالات. ومثل هذا الوكيل المحلي أو الإقليمي الذي يستمدّ قوته السرية من تلك المظلة ويعمل بالتنسيق معها يصبح في موقع الوسيط أو السمسار الذي يلعب دور المقاول الأمني لتمرير مشروع سياسي يستهدف تقويض أمن الدولة ويعطل عليها استقرارها ونموها.
الجرائم في لبنان يرجّح ألا تتوقف. وحادث الاغتيال الأخير لن يكون الحلقة الأخيرة في السلسلة وذلك لاعتبارات كثيرة منها أنّ كلّ الأطراف استنكرت واتهمت «مجهولا» بتنفيذها. وهذا يعني أنّ الجانب المستفيد أصبح في موقع يَسمح له بالمناورة والالتفاف والدوران لتسديد ضرباته المتتالية إلى أنْ يصل إلى غاياته. وبما أنّ الغابات غير واضحة المعالم فيرجّح أن تكون محصلة الأفعال تصب مجتمعة في مصلحة زعزعة الكيان اللبناني وتقويض إمكانات نهوضه... حتى تخرج الصورة السياسية المتوافق عليها سلفا من شبكات «العالم السفلي» إلى عالم آخر ليس بعيدا عن ذاك المشهد المأسوي الممتد من البصرة إلى غزّة.
الاغتيالات التي عصفت ببلاد الأرز بدءا من العام 2004 جاءت في سياق موجات ضربت المنطقة ودفعتها إلى تجاذبات أهلية أخذت ترسم خرائط سياسية لدويلات «الشرق الأوسط الجديد». وحين تكون الاغتيالات مرتبة ومنظمة بهذا الكم والنوع ويُعاد توظيفها في قراءات مختلفة يمكن القول إنّ الهدف اللبناني منها هو اغتيال الكيان السياسي لدولة أصبحت ساحتها مكشوفة ومفتوحة على كلّ الاحتمالات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1969 - السبت 26 يناير 2008م الموافق 17 محرم 1429هـ