ما يحصل في قطاع غزّة من تشديد الحصار وإنزال العقاب الجماعي بحق السكّان هو نتاج عقلية إيديولوجية تأسست عليها الدولة في فلسطين المحتلّة.
هذه العقلية مشروطة بمجموعة عوامل تتحكّم بإدارة المؤسسة الإسرائيلية وترسم لها خطوط العلاقة السلبية مع الآخر (الطرد، الاقتلاع، الإلغاء) وأيضا الاستيلاء والتوسّع والتمركز في المواقع خوفا أو تخويفا.
ما يحصل الآنَ في غزّة يعكس تلك الأيديولوجية بوضوح. إلاّ أنّ الأيديولوجيا الصهيونية ليست المحرك الوحيد للسياسات الإسرائيلية. فهناك إلى جانب الدوافع العقائدية القائمة على وعود وهمية، تظهر دائما في الأفق القريب مؤشرات سياسية موضعية تولد شرارات مؤقتة لتحريك تلك العقلية الأيديولوجية. وهذا الأمر يمكن تلمسه من مجموعة متغيرات طرأت على المنطقة في السنوات الثلاث الأخيرة وصولا إلى جولة جورج بوش في «الشرق الأوسط».
نبدأ من الأسباب القريبة قبل أنْ ننتقل إلى الأسباب البعيدة.
أوّلا، فشل بوش في جولته الأخيرة التي وعد بتكرارها في مايو/ أيار المقبل.
ثانيا، أقتراب موعد صدور تقرير لجنة «فينوغراد» بشأن إخفاقات الحرب على لبنان.
ثالثا، احتمال انهيار الائتلاف الحكومي وإجراء انتخابات نيابية ترجّح الاستطلاعات إمكان سقوط حزب «كاديما» وعودة الليكود والمنظمات المتطرّفة عنصريا ودينيا إلى الحكم.
رابعا، المفاوضات مع السلطة الفلسطينية. والشروط الموضوعية لنجاحها تقوم على معادلة بسيطة وهي وقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات وعودة الفلسطينين وقيام دولة «قابلة للحياة». وهذا ما تتجنب حكومة أيهود أولمرت التعاطي معه.
كلّ هذه العناصر تشكل حلقات سلبية. وهي في مجموعها العام أخذت تضغط على حكومة أولمرت في اعتبار أنها نتاج سياسة راهنت على استراتيجية أميركية اعتمدها البيت الأبيض منذ وصول تيار «المحافظين الجدد» قبل سبع سنوات إلى إدارة واشنطن.
الاستراتيجية الأميركية (المدعومة صهيونيا) قامتْ على فكرة التقويض. تقويض الدول والسلطات والمؤسسات وإطلاق عنف العلاقات الأهلية من ضوابط الاجتماع (العمران) وما تعكسه من تضاريس قبلية وأقوامية وطائفية ومذهبية بهدف تمزيق الهويات المشتركة وإعادة توزيعها على دوائر صغيرة ومناطق نفوذ متجاذبة. استراتيجية التقويض نجحت في أفغانستان (نهاية 2001) ثم في فلسطين (انقضاض شارون على سلطة ياسرعرفات بعد قمّة بيروت في العام 2002) ثم في العراق (احتلال بلاد الرافدين وتحطيم الدولة وتفكيكها إلى دويلات وكانتونات) وثم العدوان على لبنان في صيف 2006 وتقطيع أوصاله وزعزعة علاقاته الأهلية ومحاولة دفعها إلى الفتنة على غرار ما حصل في العراق، وثم فرض الحصار على الضفة والقطاع في 2007 بهدف تشطير السلطة إلى حكومتين وإثارة نزاعات سياسية تؤدّي إلى إلهاء الشعب الفلسطيني عن قضيته والاندفاع نحو مواجهات مفتعلة تريح تل أبيب من التصادمات وحتى المفاوضات. وهذا ما نجحت جزئيا في تحقيقه.
نجاحات وعقبات
هذه الاستراتيجية نجحت في مرحلتها الأولى ولكنها في مرحلتها الثانية وصلتْ إلى حائط مسدود حين بدأت المتغيّرات تعيد ترتيب علاقات مضادة لمشروع الهجوم الأميركي. وتجلّى الأمر في أربع نقاط:
أوّلا، الانتخابات النصفية التي أدّت إلى خلق أزدواجية سلطة بين الرئاسة الأميركية والكونغرس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2006.
ثانيا، صدور تقرير بيكر-هاملتون في نهاية 2006 وتوصياته التي نصحت بإجراء اتصالات مع سورية وإيران بشأن ملفات لبنان وفلسطين والعراق .
ثالثا، حصول اتصالات أميركية - إيرانية «أمنية» و«تقنية» في بغداد وغيرها من العواصم، بالإضافة إلى تطوّر الاتصالات السورية - الأميركية في أكثر من مكان وزمان طوال العام 2007.
رابعا، صدور تقرير المخابرات الأميركية المشتركة (16 جهازا) في نهاية 2007 الذي أكّد توقف إيران عن استكمال الجانب العسكري من مشروعها النووي في العام 2003.
هذه النقاط الأربع جرى تداولها في سياق واحد مع تطوّرين: الأوّل، الاستنفار العسكري الأميركي في الخليج الذي ترافق مع مناورات وإرسال حاملات طائرات وتهديدات. والثاني، الاستنفار الدبلوماسي الأميركي دوليا في محاولة لفرض عقوبات على إيران.
هذه المناورات العسكرية والدبلوماسية وصلتْ إلى طريق مسدود وانكشفت أوراقها مع نهاية العام الميلادي الماضي بعد صدور تقرير المخابرات المشتركة. وحين تتعطل إمكانات توجيه «ضربة عسكرية» وتتأخر احتمالات فرض عقوبات اقتصادية، تضطر الدول إلى البحث عن مخرج ثالث من خلال توظيف العلاقات الدبلوماسية لتعويم سياسة تواجه صعوبات ميدانية. لذلك ولهذه الأسباب البعيدة قرر بوش القيام بجولة في المنطقة في محاولة منه للبناء على ما حققه من نتائج في «مؤتمر أنابوليس» وبقصد إحياء استراتيجية تقويضية انفضحت ميدانيا وظهرتْ تلاوينها الطائفية والمذهبية والقبلية والأقوامية في الأمكنة التي تعرّضت للهجمات الأميركية المباشرة.
زيارة بوش جاءتْ متأخرة وفي الوقت الضائع (السنة الأخيرة من عهده). وحصلتْ بناء على قناعات أيديولوجية تقوم على سياسة تحريم الحلال وتحليل الحرام. وبسبب الرؤية البوشية القاصرة عن فهم المتغيرات والتقاط المؤشرات السلبية فشل الرئيس الأميركي في تدوير الزوايا وإقناع دول المنطقة بوجهة نظره.
فلسطينيا ركّز بوش في جولته على ثلاث نقاط: أوّلا، يهودية الدولة الإسرائيلية. ثانيا، التزامه بفكرة الدولة الفلسطينية من دون وعد بأنها ستشهد الولادة قبل نهاية عهده (2008). ثالثا، التفكير بتأسيس آليات لتعويض الفلسطينيين عن عدم العودة. خليجيا ركّز على الخطر الإيراني تحت ستار محاولة تشكيل جبهة معتدلة مع «إسرائيل» لاحتواء نفوذ إيران الإقليمي.
عمليا فشلت زيارة بوش؛ لأنّها جاءت متأخرة نحو السنتين ، وبعد صدور تقارير وبيانات وتصريحات تؤكّد استعداد أميركا للتساكن مع إيران في العراق. لذلك ظهرتْ تصريحات بوش النارية أنها محاولة لتوريط المنطقة في عداوات إقليمية تستفيد منها واشنطن في وقت تكون هي عازمة على توسيع الاتصالات وتبادل الزيارات واللقاءات مع طهران.
فشل بوش في تحصيل ما يريد في جولته يفسّر إلى حد كبير تلك السياسة الإسرائيلية في تعاملها مع القطاع. فهذا الهجوم السياسي على الضفة ومواصلة خنق غزّة اقتصاديا يعطي صورة موجزة عن نزعتين: الأولى أيديولوجية ثابتة. والثانية سياسية متحركة. وفي الحالتين تظهر تلك التحركات عن وجود مخاوف تعبّر عن القلق الإسرائيلي من تعثر استراتيجية التقويض الأميركية وعدم قدرة واشنطن على استكمال ما تبقى منها في السنة الأخيرة من عهد بوش. ومن الآنَ حتى تنتهي فترة إدارة الحزب الجمهوري للبيت الأبيض ستظهر في الأفق متغيّرات كثيرة قبل عودة بوش إلى المنطقة في مايو المقبل. ولا يستبعد خلال فترة الشهور المقبلة أنْ تعتمد الإدارة سياسة انقلابية تعدل قواعد اللعبة الدبلوماسية وما تقتضيه من تحالفات إقليمية غير متوقعة بقصد إعادة إنتاج شروط ميدانية تلبي من بعيد استراتيجية تقوم على فكرة تقويض المنطقة طائفيا ومذهبيا لتبرير هوية «إسرائيل» اليهودية وتغييب حق الشعب الفلسطيني بالعودة.
@ المقال كلمة ألقيت في ندوة « دعم غزّة» عقدتْ في مقر جمعية وعد البحرينية الأربعاء الماضي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1968 - الجمعة 25 يناير 2008م الموافق 16 محرم 1429هـ