تأوي إلى نصّه فتشدّك قدرته على المماطلة في المعنى. شاعر نادرا ما يقيم جسرا بين نصّه والمعنى في حدوده الساذجة والمتاحة للكسالى والتنابلة والعاطلين عن العقل، المكتظة بهم المقاهي والسبل المزدحمة بالوحشة! يدشّن عمارته من دون أن يضع اعتبارا للذين يأتون إلى النص كما يأتون إلى وليمة مجّانية يُشبعون بها فضول صراخهم الطبيعي!. والشعر لا يُشبع مثل ذلك الفضول. شاعر يُجالس اللغة بحميميّة بالغة. لكأنّه «يراودها عن نفسها» بنبل فادح. مثل تلك المراودة لابد أن تُنجب نصّا له من الملامح مايعلق في الذاكرة. ملامح من نسغه... تشبهه.
بدر الرويحي، هذا الشقيق الذي لم تنجبه أمي. يشبهني. أو لأقل أشبهه كي لا أتمادى في الأنا. إن كان ثمة تمادٍ في هذا الصدد. تسترعيك البدايات الملفتة والمضيئة. عادة ماتكون البدايات حزمة أو حزمات من عتمة. كتابة هي تعبير عن طفولة متأخرة، لكنها بالنسبة إلى الرويحي كتابة تصرّ على الذهاب إلى الحدود القصوى من الإنهاك. إنهاكه وإنهاك قارئ جُبِلَ على: «بَ بِ بُ: بطة»! أو: «أنا أكتب شعرا شعبيّا، يعني: أنا منكم وإليكم»، تماما كما يحدث في الحملات الانتخابية!.
مع بدء البحث عن مراسل لمجلتي «حياة الناس» و»قطوف» في البحرين منتصف التسعينات من القرن الماضي، يوم أن كنت أرأس قسم التحقيقات في الأولى، وإدارة المكاتب الخارجية والمراسلين في سبع عواصم عربية إضافة إلى عاصمتين غربيتين، لم أحتج إلى دقائق كي أقرر الأفضل بين الأسماء التي تختزنها ذاكرتي، على رغم علمي بأن تجربة الرويحي الصحافية وقتها تكاد لا تُذكر. كانت ثواني معدودات حسمت خيار الاسم، وتم إقراره في الوقت نفسه. ولم يخيّب أملنا. رفد «حياة الناس» بالكثير من التحقيقات واللقاءات والتغطيات المهمة والنوعية، لولا الانتكاسة المادية التي طرأت على المجلتين، ما اضطرها إلى إغلاق بعض مكاتبها، وتقليص عدد مراسليها، ومن بينهم مراسل (المنامة) بدر الرويحي، لكان له شأن كبير في هذا المجال، بل طال التقليص بعد شهور كاتب المقال مع انتهاء عقده وبيع امتياز المجلتين إلى مستثمرين سعوديين!.
أعود إليه (الرويحي) وهو يذهب إلى المغامرة متسلّحا بقدرة فذة على اجتراح أساليب من التجريب والهيئات في نصوصه تبعث على الغبطة والإعجاب. أساليب عمادها لغة متزنة في تكثيفها، عميقة وصلبة في بنيتها، ومبتكرة في توظيفها، وجريئة في إشهارها، على رغم أنه إشهار في النادر من الحضور! ندرة في الحضور مبعثها قراءة عميقة لحقيقة وكنْه وسمات هذه الساحة التي لا يطربها زمّار البيت، عدا عن زمّار الحي!!!.
أعود إليه (الرويحي) وهو يتجرأ على وعي كربوني، في الكثير من شواهده ومفاصله. وعي لا يريد أن يتمرّد على المكرّس والمؤسس من بنيته، والإيمان المطلق بما يعتقد أنها ثوابت. مثل هذا التجرؤ يحيلنا على كنْه وطبيعة مابعد وعي الرويحي نفسه. أن تُشهرَ جرأتك في وجه هذا السديم من البلادة، والمكرّس من الوعي بظاهر الأشياء، والالتصاق بها من دون بذل أتفه جهد للنفاذ إلى البُوصة الأولى مما بعد ذلك الوعي، ذلك يعني أنك تُشهر بسالتك ومغامرتك أمام محيط يتلفّع بما يشبه الخزي، إن لم يكن الخزي ذاته. ذلك يعني أنك تذهب واثقا من بوصلتك في اختلاط الجهات، وأحيانا ذوبانها وتلاشيها!. بوصلة النص: التيه في المغامرة. المغامرة الواثقة من تيهها. تيهها في الإصرار على إثم التجريب. وهو إثم يكاد يكون هو الخسارة المفتقدة في الكثير من تجارب النصوص التي تطل علينا كالفطْر، وأحيانا كالحتف من دون سابق إنذار بالتوبة أو حتى ادّعاء امتهان الورع!.
لا أنأى بنفسي عن وزْر الإهمال. إهمال تجربة بهذا الحجم في طاقتها وقدرتها على استدعاء كل إمكانات الغبطة لدى مجايليه، وحتى من سبقوه في التجربة، إن لم يكن استدعاء حالة مرَضيّة (الحسد) تكاد تتمنى ألا يطلّ بجرأته على ساحة مصابة بالرعدة لفرط جُبْنها حتى في شهر أغسطس/ آب (الجحيم) الخاص والإضافي في هذه الجزيرة العارية من السواحل التي اختفت في وضَح هبات ومشاع مفتوح على النهْب!!!.
سلام على جرأتك. سلام على مغامرتك. سلام عليك من مطلع النص حتى فجر محاولة أخرى!.
العدد 1967 - الخميس 24 يناير 2008م الموافق 15 محرم 1429هـ