العدد 1966 - الأربعاء 23 يناير 2008م الموافق 14 محرم 1429هـ

عملية للإنجليز... مغامرة أفاقة أم مجرد لعبة في يد القدر؟...«ربّة القصر اللبناني»: باسكية حسناء سلّمت

يدور المشهد الأول - الذي ليست له من ناحية مبدئية أية علاقة مباشرة بحكايتنا - في صيف العام 1923 في بيروت، وتحديدا في مقهى «الكورسال» الذي كان بالغ الشهرة آنذاك. وكان - حسبما تقول الحكايات - المكان الذي تلتقي فيه كل أنواع البشر المرموقين في العاصمة اللبنانية، من مثقفين وصحافيين ورجال استخبارات. وكان الكاتب الفرنسي بيار بنوا قصد المقهى كما كان من عادته أن يفعل في كل مرة يزور فيها عاصمة هذا البلد الذي أنشأه الفرنسيون حديثا. ولكنه هذه المرة توجه إلى المقهى وهمّه أن يعثر على موضوع لقصة يكتبها. خلال الشهور الماضية كان النجاح الذي حققته روايته «الاطلنطيد» أدهشته ووضعته أمام تحديات أكبر. فإما أن يكتب ما هو خير منها وإما أن يعيش على أمجاد ماضية. وفي ذلك اليوم البيروتي القائظ لم يكن بنوا ليتوقع أبدا أن يعثر على ضالته في المقهى. ولكن «المعجزة الصغيرة» حدثت. وخرج بعد ساعة ونيف ليبدأ التفكير في قصته الجديدة، ومن ثم كتابتها. فما الذي حدث؟

ليس أكثر من لقاء صدفة عقده مع نقيب فرنسي أصله من مقاطعة بريتاني كانت له معرفة سابقة به. وهذا الضابط في جيش الانتداب - الذي كان معاوناَ للقائد العام لجيش الشرق الفرنسي الجنرال ويغان - لم يكن في حقيقة أمره سوى ضابط مخابرات، سيلعب لاحقا دورا كبيرا في المنطقة، كما كان آنذاك المولج/ المكلف بتجنيد عدد من الكتّاب والفنانين الفرنسيين لحساب الاستخبارات.

وكان من بين الذين جندهم برتران دي جوفينال، وربما بيار بنوا نفسه أيضا. غير أن بنوا لم يكن متهما خلال تلك الجلسة بأي عمل استخباراتي. كان منصبا كل همّه على معرفة المزيد عن سيدةٍ لفظ الضابط روجيه غاسار اسمها، في معرِض حديثه عن الصعوبات التي يعاني منها الفرنسيون في مواجهة غرمائهم الإنجليز على الأرض السورية - اللبنانية. وكان اسم السيدة ماغدا أندوران. وبنوا، منذ راح يصغي إلى صديقه الضابط وهو يحدثه عنها، أدرك أنه عثر على موضوع روايته الجديدة.

وهذه الرواية صدرت لاحقا باسم «سيدة القصر اللبناني» وحُوّلت في الخمسينيات إلى فيلم فرنسي صوّر في ربوع لبنان عموما وفي قصر الدين خصوصا، وقام عمر الشريف بدور فيه في أول إطلالة عالمية له سبقت بسنوات إطلالته في «لورانس العرب». والطريف انه كان ثمة روابط كثيرة بين ربة القصر اللبناني ولورانس، عدا تمثيل عمر الشريف الفيلمين المحققين عنهما. ولعل أهم تلك الروابط تكمن في أن لورانس هو الذي تولى - كما تقول بعض جوانب الحكاية - توجيه ماغدا أندوران في عملها في الشرق الأوسط، بعدما اخترقت الحركة الوطنية المصرية ومكّنت السلطات البريطانية في القاهرة من اعتقال سعد زغول. ولكن... هل كانت ماغدا - حقا - عميلة للاستخبارات البريطانية؟

ليس تماما. إذ - بصرف النظر عن الصورة التي قدمها بها بنوا في روايته - من المرجح أن ماغدا كانت متعددة الولاءات، أو بالأحرى متغيرتها. فهي - بحكم إقامتها في الشرق الأوسط متنقلة بين سورية ولبنان ومصر في تلك الآونة - كانت تختلط بالكثير من الأشخاص والكثير من الاتجاهات. وكانت تعمل بحنكة وصبر من دون أدنى اعتبار لهوية الذين تعمل لهم، حسبما روى غاسار لبنوا. ومن هنا لم يكن مصادفة أن يرسل رئيس الاستخبارات الفرنسية في الشرق الأدنى الكولونيل آرنو، إلى بيار أندوران يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 1927 رسالة يقول فيها:

«سيدي يهمني مرة أخرى أن أؤكد لكم أنكم لستم موضع أية ورقابة خصوصا من قبلنا، وأن التعليمات قد أعطيت لكي تتمكنوا - أنتم والسيدة أندوران - من العيش بهدوء وثقة في تدمر (...)، ومع هذا فإني أود أن أسألكم أن توصوا السيدة أندوران بأن تكون أكثر حذرا في علاقاتها مع الأشخاص الأجانب؛ لكيلا يؤدي سلوكها إلى إثارة أي شكوك لدى عميل ثانوي الأهمية...».

تحذير ذو دلالة

في شكلها الخارجي تبدو الرسالة مطمئنة. ولكن في جوهرها لم يخفَ على أندوران أنها رسالة تحذير؛ ذلك لأن السلطات الاستخباراتية الفرنسية تشك في أن السيدة تعمل لصالح المخابرات البريطانية. بل تستخدم ادارتها لفندق العائلة في تدمر؛ وسيلة لخدمة تلك الأجهزة البريطانية في تواصلها مع الثوار السوريين الدروز. وكان هذا أكثر مما يمكن للفرنسيين احتماله. غير أن بنوا - خلال استماعه إلى ما يقصد إليه الضابط غاسار، لم يكن مهتما بهذا الجانب... بل بشخصية ماغدا نفسها... فهو بدوره، وكما الكثر من قبله ومن بعده، استبد به الاعجاب بها... وقرر ان يغوص في تفاصيل حياتها، قبل ان تتحول في روايته إلى الليدي ايتلستان. وهنا قد يفيد ان نفتح هلالين لنقول ان بيار بنول قد بكر في الكتابة عن السيدة في ذلك الحين، فهوا، لو انتظر، عقدين آخرين من الزمن، لكان في وسعه ان يكتب رواية أقوى بكثير. ذلك ان ما عرفه من حكاية الفاتنة في ذلك الوقت المبكر، لم يكن أكثر من قمة جبل الجليد... أما البقية فأكثر غرابة واثارة... فماغدا عاشت طويلا بعد ذلك، وتنقلت أكثر، لتموت بعد الحرب العالمية الثانية مطعونة بالخنجر على يد عشيق لها يدعى هانز آبيل، بالطريقة نفسها التي يمكن ان تكون هي التي طعنت بها عددا من عشاقها السابقين. ذلك ان ماغدا أندوران لم تكتف بأن تكون عملية متعددة الوجوه. بل كانت امرأة فاتنة أيضا، بحيث ان رواية «ربة القصر اللبناني» لم تتمكن أبدا من «ايفائها حقها»، مكتفية بتقديمها كعاشقة رومانسية وسيدة مغامرة لا أكثر.

ولكنها، أيام بيار بنوا لم تكن أكثر من ذلك على أية حال. وهذا الأخير اذ اهتم في صيف 1923 بما يمكن معرفته من مصيرها، طفق من فوره يبحث عن ماضيها فتجمع لديه ما يكفي لرسم شخصية استثنائية رومانسية. فما الذي عرفه بنوا؟

بكل بساطة، ان ماغدا ولدت العام 1895 في مدينة بايون في الباسك الفرنسي لأب كان كاتب عدل في المدينة. وخلال مراهقتها راحت تطرد من كل مدرسة ودير تودع فيها بتهمة افساد رفيقاتها الصبايا. وهي كانت في الخامسة عشر حين قررت ان تضع حدا لذلك فهربت مع ضابط في الخيالة، لتتعرف في العام 1911. على الثري بيار دانوران وتتزوجه وقد سحره جمالها. وفي العام 1914 انتقلال زوجان الشابان إلى القاهرة. وهناك، بطريقة من الصعب تحريها، قيض لماغدا ان تدخل أجواء الاستخبارات العسكرية في وقت كانت فيه كل الدول تتصارع وتتنافس من حول منطقتي الشرق الأوسط والأدن. وهنالك تعرفت إلى لورانس، الذي لم يكن قد أضحى «لورانس العرب» بعد، فجندها هذا في الاستخبارات البريطانية، تحت رعاية الجنرال كلايتون. وكان من أولى مهماتها التسلل إلى داخل أوساط الحركة الوطنية المصرية... ويبدو انها حققت نجاحا في ذلك اذ سرعان ما وجدت نفسها بين مجموعة من «ليبراليين» أجانب ملتفين من حول سعد زغلول. وهكذا سهلت القبض على هذا الأخير ونفيه بعيدا عن بلده، ما أطلق ثورة العام 1919 من عقالها. ولفت نجاحها نظر لورانس، فبدأ بعدها للتوجه إلى بلاد الشام. وهكذا نجدها هناك خلال الأعوام الأولى من العقد التالي، مديرة لفندق «الملكة زنوبيا» في تدمر وسط الصحراء السورية. وفي ذلك الحين، من حول الحركة الوطنية في سورية ولبنان، كانت ثمة حرب ضروس بين المخابرات الفرنسية والانجليزية. وكان الانجليز، خصوصا، يغذون الثورة ضد الفرنسيين، وكانت ماغدا مكلفة بمد الجسور مع الثوار لحساب الانجليز منا يبدو، وكان هذا يثير ثائرة الفرنسيين. وكما يحدث عادة في كل مرة يدور فيها صراع وتنافس بين المخابرات الانجليزية والفرنسية، كان عملاء صاحبة الجلالة يبدون الأقوى والأكثر فعالية. أما الفرنسيون فلا يكون لهم الا ان يلحقوا لاهثين. لكنهم هذه المرة لم يكتفوا بهذا، فهم - اذ اعوزهم الدليل القاطع الذي يدين ماغدا اندوران - راحوا يكثرون الحكايات من حولها لعلهم يحطمونها. وكانت الحكايات من التشابك والغرابة، بحيث بالكاد يمكن تصديقها. لكن شخصية ماغدا وغرابة أطوارها، كانتا توفران الخلفية الكافية للتصديق. والا فكيف حدث ان مات الكثير من عشاقها إما مسمومين وإما مطعونين من دون ان تستدل السلطات على أسباب قتلهم، أو على من يمكن ان يكون قاتلهم؟ ولقد كان أول أولئك ضابط الاستخبارات البريطاني الكولونيل سنكلير، المساعد السابق للورانس والذي وجد مسموما في دمشق.

رجالهم يتدفقون

مهما يكن من الأمر، فإن الانجليز، بماغدا أندوران أو من دونها، كانوا نشطين جدا في المنطقة في ذلك الحين. وكانت المحطة التابعة لجهازهم الاستخباراي M16 في بيروت بقيادة النقيب تومسون، تعج بالعملاء والأخبار والتحركات... وكان «رجالهم يتدفقون» على المنطقة، أحيانا مكشفوين وأحيانا كعلماء جيولوجيا وآركيولوجيا... وأحيانا على صورة نساء قويات من أمثال غروترود بل وفريا ستارك، اللتين كانتا تقيمان في بغداد وتزوران بيروت بين الحين والآخر. أما في القاهرة فكان هنالك العملية البارونة برو، صديقة أندوران الحميمة.

أما العميل الانجليزي لأكثر قوة وفعالية في المنطقة في ذلك الحين، فكان فرنسيا يدعى هنري آلورج الذي يتحدث عنه الكاتب دانيال غيران الذي التقاه خلال مروره في بيروت في الثلاثينات على النحو اللآتي: «كان آلورج فرنسيا من مانت لا جولي، وكان ابنا لكاتب عدل، درس في بريطانيا وأصبح مدرسا للجيولوجيا في أوكشفورد. ولمناسبة مؤتمرات عقدت في القدس ثم في دمشق وبيروت، التقيته وهو الذي عرفني على الكونتيسة دندوران» ولاحقا سأل غيران القنصل الفرنسي عما حل بآلورج فأفاده انه أصبح المفتش العام للاستخبارات البريطانية في لبنان وسورية. ويبدوا ان آلورج أقام علاقة حميمة مع مواكنته وزميلته في العمالة للانجليز ماغدا في ذلك الحين. ومن هنا كان من الصعب، في لعبة التنافس الاستخباراتي، تصدي الفرنسيين لآلورج، فإنهم وجهوا أنفسهم شطر ماغدا أندوران مطالبين بطردها من الشرق الأدنى... أو هذا على الأقل ما جاء في تقرير رفعه الضابط الفرنسي ريبار، إلى الجنرال كاترو ما ان وصل هذا الاستلام مهماته في لبنان وسورية, فكيف حدث، ان الجنرال كاترو تقاعس عن ذلك، على رغم ان التقرير كان قويا؟

ان ماغدا أندوران هي التي تفسر هذا بنفسها، في كتاب مذكرات أصدرته لاحقا بعنوان «الزوج كجواز سفر» لم ترو فيه كل حياتها طبعا، لكنها روت أجزاء مختارة منها، ليس في أي منها ما يدينها أو يكشف عن أي سر غامض من أسرارها. وتقول ماغدا في ذلك الكتاب، انه في الوقت نفسه الذي وصل فيه تقرير ريبار إلى كاترو، وصلته - «بفضل العناية الآلهية» كما تضيف - رسالة من بطل الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا الماريشال ليوتي، توصي خيرا بالزوجين أندوران وتطلب من كاترو مساعدتها. فهل كان يمكن لكاتروا ان يطيع مساعده الضابط الشاب، بدلا من ان يستجيب لطلب الملريشال ليوتي؟

ولئن كانت ماغدا قد غضت الطرف عن توضيح الدوافع التي حدت بليوتي إلى التوصيلة بهما، فإنها استفاضت بعض الشيء في الحديث عن التقرير كان يدينها قائلة: «لقد كان محتوى التقرير يأخد علّي العلاقات التي كنت أقيمها مع أمراء آل لطف الله، الذين كان لهم دور كبير وفاعل في الحركة الوطنية العربية عموما، وفي مصر وسورية خصوصا. كما ان التقرير نفسه كان يتحدث عن الدعاية المعادية لفرنسا التي يشنها في بغداد، وعن علاقتي بالبارونة برو، التي لم تكن في حقيقة أمرها سوى عميلة في الانتلجانس ؟؟؟؟؟ (المخابرات البريطانية) برتبة عالية».

ولنلاحظ هنا كيف ان ماغدا، بالكاد، تخفي عبر هذه الفقرات، ما كانت حقا تفعله وسك دوامة المساندة الانجليزية الصريحة للحركة الوطنية العربية... ودائما ضمن إطار لعبة التنافس والصراع بين لندن وباريس، من حول وراثة السلطنة العثمانية في منطقة الشرق الأدنى.

زوج عربي مسموم

المهم في هذا كله، هو ان حكاية بيار بنوا من ماغدا أندوران تتوقف هنا. لكن ماغدا أكملت حياتها بعد ذلك طبعا... وتفاصيل ما حدث لها خلال السنوات الآتية، اذا كان لا يمكننا العثور عليها في رواية «ربة القصر اللبناني» فإننا نعثر عليها في واحد من فصول كتاب «تاريخ المخابرات في العالم». فما الذي يقوله هذا الفصل؟

يقول ان ماغدا أندوران بدلا من ان تطرد مع زوجها، من لبنان وسورية، على يد الجنرال كاترو ورجاله، وجدت نفسها تعيش بدايات مصير آخر. فلقد قرر الجنرال كاتروا «استعادتها» اي انتزاعها من يد الانجليز وجعلها تخدم فرنسا. ويبدو انه نجح في ذلك... ولمن من دون ان تدري دوائر الضباط الصغار في الاستخبارات الفرنسية في المنطقة شيئا. وهذا ما يفسر الرسالة التحذيرية التي تلقاها زوجها في العام 1927... وعدم تمكن تلك الدوائر من المساس بها، على رغم الدلائل كلها. ويبدو ان ماغدا راحت منذ ذلك الحين تشتغل لحساب الفرنسيين. وهي في العام 1932 طلقت بيار أندوران لتتزوج فارسا عربيا وتتنقل في بعض أنحاء الجزيرة العربية خارقة بعض المحظورات ما أوقعها في أخطار كثيرة سرعان ما كانت تفت منها بقدر قادر. وفي العام 1935 عثر على زوجها العربي مسموما، تماما كما كان حال الضابط الانجليزي سنكلير عشيقها السابق. فهل كان الأمر صدفة؟

لن يعرف أحد حقيقة الأمر طبعا، أما بالنسبة إلى «ربة القصر اللبناني»، فإنها تزوجت من بيار أندوران من جديد العام 1937، وعادت معه إلى تدمر. وبفعل الصدفة أيضاُ تم العثور في ذلك الحين على بيار مقتولا في حوض استحمامه وقد أصيب بسبعة عشر طعنة خنجر! ولم يدن أحد من ماغدا بأي اتهام من جديد!

وهي بعد عامين من ذلك، عاشت منعطفا جديدا من حياتها، غذ نجدها في العام 1939 تعود إلى منطقة الباسك، مسقط رأسها في جنوب فرنسا. وهي لم تصل إلى هناك للنقاهة ولا لتنشد الهدوء... بل لأن المنطقة كانت تضج باحوادث، بعد انيهار الجمهورية الاسبانية وعشية الحرب العالمية الثانية. وفي الباسك راحت ماغدا تمارس كل أنواع التهريب، من تهريب السلاح إلى تهريب الماس والأسلحة. وهناك بدأت شكوك الفرنسيين تحوم من حول امكان عملها لحساب الاستخبارات الألمانية النازية. وهم اذ جمعوا الأدلة على ذلك، تدخلت الصدفة لإنقاد الحسناء التي أضحت الان سيدة خمسينية: سقطت فرنسا في يد هتلر في ظل هزيمة ساحقة... ووصلت ماغذا إلى باريس لتصبح عضوا فاعلا في الغستابو الفرنسي، ومن دون أي غطاء هذه المرة. المشكلة الوحيدة بالنسبة إليها هنا كانت ابنها الشاب جاك، الذي اختار، خلال الحرب، الجانب الآخر، وانضم إلى المقاومين الشيوعيين ضد النازيين. والطريف ان جاك تمكن ذات يوم، في باريس، من سرقة مسدس امه ليعيره إلى رفيقه بيار جورج (الذي سيعرف لاحقا باسم الكولونيل فابيان). وهو المسدس نفسه الذي قتل به بيار، ضابط البحرية الألمانية الفونس موزو في محطة مترو باريس شمال العاصمة باريس، معلنا بتلك العملية بدء حول الشيوعيين المقاومة في فرنسا.

ويبدو ان ماغدا عرفت كيف تستفيد لاحقا، عند هزيمة الآلمان وخروجهم من فرنسا، من بطولات ابنها جاك في صفوف المقاومة الشيوعية... إذ عند التحرير، فوجئ كثر بها وقد ربطت من حول ذراعها شارة القوات الفرنسية الحرة، معلنة ولاءها لشارل ديغول. وبهذا انقذت «ربة القصر اللبناني» نفسها للمرة الألف، من مصير مان واضحا في سواده... وضوح الشمس.

نهاية مدهشة

«ولكن في النهاية، من المؤكد ان الجريمة لا تفيد» كما أكد كاتبوا سيرة ماغدا. فإذا كانت عدالة البشر، وأجهزة الاستخبارات قد عجزت دائما عن الامساك بهذه المرأة اللعوب، والفاتنة القاتلة، فإن القدر سيكون لها. في نهاية الأمر، بالمرصاد: فهي، بعد التحرير، توجهت لكي تعيش ردحا من الزمن في طنجة، بالمغرب... وفي ذلك الحين كانت كنجة قد تحولت مدينة كوزموبولتية تعج بأوكار الجواسيس وعصابات التعريب. وهناك راحت ماغدا، المكتهلة تمارس التهريب بدورها، مستفيدة من ثروة كانت جمعتها ومن علاقات سابقة كانت أقماتها. وهي نجحت في ذلك إلى درجة ان ثراها زاد، وانها تمكنت مرة أخرى من الافلات من يد العدالة، حين عثر على عشيق لها أخيرا مسموما... ونقول انه الأخير، لأن الزمن لم يمهل ماغدا أندوران حتى تتمكن من «فقد» عشيق اضافي لها بتلك الطريقة الغريبة نفسها. فهي بعد شهور من مقتل ذلك العشيق توجهت بيختها المسمى «سافو» إلى جزيرة لينربوس اليونانية، مصطحبة معها هذه المرة رفيقا سابقا لها في الغستابو الفرنسية يدعى هانز آبيل. وخلال رحلة العودة، ولأسباب لم تتضح أبدا، قام هانز بطعنها بالخنجر عدة طعنات قاتلة، ما أنهى حياتها، مضيفا اليها فصلا أخيرا ما كان يمكن لبيار بنوا ان يتنبأ به. ذلك ان الجزء الذي عرفه بنوا من حياة ماغدا كان الجزء الأكثر ظهورا... فسحره ودفعه إلى كتابة روايته الأجمل. فما الذي كان يمكنه ان يقول لو انه عرف بقية الحكاية واطلع على كل الخفايا ووقفت بين يديه تقارير سرية يفترض وجودها في مكان ما، عن دوافع هذه المرأة وبقية نشاطاتها، والجرائم التي طاولت، دائما، رجالها وعشاقها؟

وحين سئل بيار بنوا لاحقا عن ماغدا أندوران كان من الملفت ان يتوقف عند الجانب الأكثر ظهورا من حياتها وشخصيتها، اذ اكتفى بالقول «لقد تعاملت روايتي، من خلال شخصية «ربة القصر اللبناني»، فقط مع الجانب الذي يتناول الصراع الذي قام بين أجهزة المخابرات الفرنسية وأجهزة المخابرات البريطانية في ذلك الجزء من العالم. فالانجليز بقدر ما تبدوا حلفاء موثوقين لنا، خلال الحربين العالميتين، بقدر ما كانوا خصومنا بين الحربين في تلك المنطقة. وابرز مظهر من مظاهر عدائهم لنا تحريضهم العرب على وحدة استخدموها ضدنا، لكنها انقلبت في نهاية الأمر ضدهم أيضا».

أما ماغدا اندوران فإنها، في ذلك كله، لم تكن - اذا - سوى لعبة في أيدي تلك الأجهزة. ولعلها، لكي تثآر من تلك الوضعية عرفت دائما كيف تجعل من الرجال لعبة في يديها.

قصة من كتاب «حكايات صيفية».

العدد 1966 - الأربعاء 23 يناير 2008م الموافق 14 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً