أظن أن قلب الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى يخفق أكثر من غيره، وبمعدلات عالية، من الآن حتى مارس/ آذار المقبل... فمن المقرر أن تنعقد القمة العربية السنوية المقبلة في العاصمة السورية (دمشق) خلال مارس المقبل طبقا للترتيب الأبجدي للدول العربية، وها هو الدور جاء على سورية.
لكن سحابات عاتية من الأزمات المتراكمة، تسود الآفاق العربية هذه الأيام ومنذ مدة ليست قليلة، وهي سحابات تكاد تلغم فرصة انعقاد ناجح للقمة في دمشق لأسباب كثيرة، بعضها عربي والآخر نابع من تأثيرات المناخ الإقليمي والدولي...
لم يعد السؤال هو: أين ستنعقد القمة المقبلة، فالأمر مقرر منذ القمة الماضية، في السعودية، ولكن الأسئلة الأخرى هي التي تتدفق وتتتابع، هل يمكن أن تنعقد القمة حقا في دمشق وفي موعدها؟ وإذا انعقدت، هل تتوافر لها حتى عوامل النجاح النسبي في ظل الخلافات الواضحة في الرؤى والسياسات العربية؟ وهل سيذهب إلى دمشق كل القادة العرب، أو بعضهم بينما يتمنع عن الذهاب قادة عرب أصبحت خلافاتهم مع قادة سورية علنية واضحة؟ وهل تقبل سورية انعقاد قمة عربية على أرضها، تخرج ببيان أو نتائج تتناقض مع سياساتها وتتعارض مع رؤاها، أم أنها تريدها قمة تُماشي توجهاتها التي تصفها بالممانعة، وتساعدها على كسر محاولات عزلها؟
خطرت لي كل هذه الأسئلة وغيرها، وأنا أراقب المشهد العربي الممزق المختلف. ربما حتى التناقض بين السياسات الحكومية الرسمية المعلنة والمخفية، ثم وأنا أتابع مثل غيري حملة الهجوم الضاربة التي شنها الرئيس الأميركي جورج بوش على سورية وحليفتها الأقرب إيران، وذلك خلال جولته الأخيرة في البلاد العربية و «إسرائيل»...
لقد استغل بوش زيارته الممتدة من «إسرائيل» وفلسطين، إلى الخليج والسعودية انتهاء بمصر، لكي «يرغي ويزبد» هجوما قاسيا وتقريعا شديدا للحلف السوري الإيراني، ولكي يمارس هوايته في اتهام سورية تحديدا بتشجيع التطرف والإرهاب، ثم لكي يوجه كل أسلحة الإنذار نحو إيران، وهو كما نظن الهدف الرئيسي من زيارته للمنطقة، مستجمعا تحالفاته وصداقاته وصفقاته لكي تخدم أغراضه في الهيمنة المطلقة على المنطقة.
لم يترك بوش منصة واحدة وقف عليها خلال جولته، إلا وأطلق اتهاماته وتحذيراته لسورية وحليفتها إيران، لم يدع وسيلة وحيدة للتحريض والتعبئة إلا واستخدمها، لكي يؤثر على السياسات العربية الرسمية من ناحية، ولكي يحاول من ناحية ثانية اجتذاب اهتمام الرأي العام العربي لخطورة ما يسميه الإرهاب والتهديد النووي المنطلقين من سورية أولا ثم من إيران ثانيا.
ربما يكون بوش قد حصل على توافق ما من بعض الدوائر الرسمية العربية على بعض توجهاته تجاه ما يسمى محور التشدد والتطرف، أو محور الممانعة الوارث لمحور الصمود والتصدي سابقا، ولكننا نشك كثيرا في أن يكون قد أثر بأي درجة من الدرجات في قناعات الرأي العام واهتمامات الشارع العربي، الذي يدرك بتلقائية أن الخطر المهدد له ينبع أولا من بؤرة التوتر المزمنة «إسرائيل»، ثم من السياسات العدوانية الأميركية المنفلتة.
وعلى رغم إدراكنا لما يمكن أن تتركه حملة التحريض الإسرائيلي الأميركي من آثار سلبية على فرص نجاح القمة العربية المنتظرة بدمشق، فإننا نعتقد أن الخلافات العربية الظاهرة هي التي قد تشكل العقبة الرئيسية، في انجاز قمة ناجحة في مارس المقبل، ترتقي بقراراتها إلى مستوى التحديات المطروحة والآمال الشعبية المعلقة عليها!
ذلك أن هذه القمة مواجَهة بألغام كثيرة يراد تفجيرها، وبملفات شائكة ينبغي معالجتها وبأزمات مستعصية يجب إعادة النظر في وسائل مواجهتها... وقد نتوقف أمام نوعين فقط من هذه الألغام والأزمات الكثيرة لندرس قدرة «العمل العربي المشترك» على العمل الجاد بشأنها...
أولا: من الواضح أن انفلات وتفكيك المحور الثلاثي المصري السعودي السوري، على مدى الفترة الماضية، وسريان حالة الجفاء والجمود والتباعد، بين هذا الثلاثي، مع غياب الضلع الرابع العراق، قد أصاب العمل العربي المشترك بوهن شديد ترك آثاره السلبية على الأوضاع العامة في الإقليم كله.
ومن تبسيط أو تسطيح الأمور القول إن الهجوم اللفظي الذي شنه الرئيس السوري بشار الأسد قبل فترة، على بعض القادة العرب، بوصفه لهم بأنهم «أنصاف رجال» كان هو السبب الرئيسي في فك المحور الثلاثي، وبالتالي في حالة الجفاء السارية، بعد سنوات من التنسيق والتفاهم الوثيق للغاية، لكن الحقيقة أن هذا السبب كان يمثل قمة الأزمة الدائرة والمتفاعلة بين الأطراف الثلاثة، خلافا على سياسات عامة وتوجهات ورؤى مختلفة، تتعلق بأزمات الأمة العربية، وخصوصا فلسطين ولبنان والعراق، وكذلك بموقع إيران وتأثيراتها، ثم بالعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.
المؤكد أن هناك اختلافات واضحة في سياسات الدول الثلاث بشأن هذه اللأزمات، كانت تتوافق وتتساكن أحيانا، وتختلف أحيانا أخرى، لكن حالة الوفاق والتفاهم بين القادة تمكنت من تجاوز الاختلافات حتى تدخلت الضغوط الإقليمية والتجاذبات الدولية، ففرقت المحور الثلاثي، إذ صارت مصر والسعودية في جانب أسمته أميركا «محور المعتدلين»، وصارت سورية اشد قربا من ذي قبل لإيران، أسمته أميركا أيضا «محمور المتشددين أو الأشرار». لم يستطع القادة العرب المعنيون، التوصل حتى الآن إلى نقطة التقاء جديدة، ليس فقط لأن الخلافات فيما بينهم قد استعت، ولكن أيضا لأن الضغوط الغربية تحديدا ازدادت حدتها إلى درجة التفريق، وربما المقاطعة والمخاصمة وصولا إلى كل الجهود المبذولة لعزل سورية عربيا ودوليا وهو أمر لا نقبله مهما كانت انتقاداتنا لبعض الممارست السورية.
وفي ظل هذه الظروف، هل يمكن التنبؤ بنجاح قمة عربية تنعقد في دمشق، أو الأمل في نجاحها بحضور القادة العرب الأساسيين، أم أن التلغيم قد حقق هدفه حتى الآن على الأقل!
ثانيا: حين تنعقد القمة العربية في دمشق، في مثل هذه الظروف المعقدة، فإن ملفات وأزمات الوطن العربي كلها أصبحت موضوعة على جدول أعمالها، والمطلوب أن تقر قرارها وأن تتخذ مواقف حيالها...
وخذ عندك الأزمة المركزية (قضية الصراع العربي - الصهيوني)، وتدهورها في الفترة الأخيرة في ظل العدوان الإسرائيلي المنفلت على الشعب الفلسطيني، وفي ظل المباركة التي أخذها أولمرت من بوش، فاندفع ليس فقط في عرقلة أي أمل في تسوية عادلة، ولكن في الانقضاض بوحشية على الشعب الفلسطيني قتلا وتشريدا، بينما الرد العربي لم يعد يخرج إلا ببعض بيانات الاستنكار المتهافتة.
ثم خذ الأزمة اللبنانية المعقدة ساعة بعد ساعة، لم تعد تراوح مكانها، ولكنها تتجه كل صباح نحو تعقيد وتعطيل جديد، وحتى لو تم التوافق على رئيس جديد للبنان، فإن الأزمة تبقى رابضة في الواقع، تخرج من تفصيلات فرعية لتدخل في تفصيلات أخرى، والهدف النهائي كما نعتقد هو الوصول إلى رأس المقاومة، انتقاما من كسرها للأنف الإسرائيلي المتغطرس في صيف العام 2006.
وخذ عندك بعد ذلك، الأزمة العراقية المتفاقمة، التي دخلت عامها الخامس من العدوان والاحتلال الأميركي، الذي تمكن من تفكيك دولة عريقة وتمزيق شعب أبي وإشعال الحروب الطائفية والعرقية، من أجل هدف رئيسي، هو الاستيلاء على أكبر احتياطي نفطي في العالم!
وحين نتفحص هذه الأزمات الثلاث بدقة تبرز أمامنا ملاحظتان أساسيتان:
1 - الملاحظة الأولى هي أن القرار الرئيسي المقرر للمصير والسياسة الأساسية المحددة للحل أو التعقيد في كل هذه الأزمات، يرقد في واشنطن دون سواها، وبصراحة جارحة لم يعد للعرب أي قول أو فعل، اللهم إلا ترديد ما تريده واشنطن اقتناعا أو ارتعابا.
2 - الملاحظة الثانية هي أن سورية متهمة في الأزمات الثلاث، متهمة بأنها هي التي تتبنى وتشجع المنظمات الفلسطينية المتشددة والمقاومة، وخصوصا «حماس»، التي تتهمها أميركا و «إسرائيل» بالإرهاب، وسورية متهمة بأنها مازالت تشجع وتسلح المقاومة العراقية وتسهل دخول المقاتلين عبر حدودها لمقاومة قوات الاحتلال الأميركي، ثم إن سورية متهمة بأن يدها الثقيلة في لبنان هي التي تعطل حل الأزمة، وتشجع حلفاءها على رفض أي اتفاق لا يكفل لهم ولسورية الهيمنة من جديد، بعد إجبار القوات السورية على الخروج من لبنان، اثر اغتيال رفيق الحريري، وبشكل متعجل ومهمين!
من الآن فصاعدا ستتكاثر الحملات ضد سورية لعقابها وعزلها، ومن بين أساليب العزل والعقاب، تلغيم إمكان عقد مؤتمر ناجح للقمة العربية في دمشق خلال مارس المقبل، حتى لا ينعقد أصلا، أو أن ينعقد بشروط تعجيزية أهمها طبعا قبول سورية التخلي عن سياسات الممانعة والمعاندة. وفي الحالتين سيتلقى العمل العربي المشترك ضربة فاجعة.
خير الكلام...
من ديوان العرب:
كأنما خلقنا للنوى وكأنما حرام على الأيام أن نتجمعا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1965 - الثلثاء 22 يناير 2008م الموافق 13 محرم 1429هـ