تأجيل انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية إلى 11 فبراير/ شباط المقبل يعتبر من أكبر الأخطاء السياسية التي ارتكبت بحق هذا البلد الصغير والمستضعف والمغلوب على أمره. فالتأجيل هذه المرة جاء في أسوأ فترة تمر بها بلاد الأرز بعد العدوان الأميركي - الإسرائيلي صيف 2006. فالبلد الآن على قاب قوسين من الانزلاق نحو فتنة أهلية لن تكون بعيدة في هيئتها العامة وتفصيلاتها الخاصة عن تلك التجاذبات الشارعية الطائفية والمذهبية التي شهدتها الساحة قبل سنة في 23 و25 يناير/ كانون الثاني 2007.
آنذاك تدخلت القوى العربية والإقليمية لوقف الاحتقان، وساهمت الاتصالات المصرية - السورية والسعودية - الإيرانية في وقف الانزلاق نحو تصادم رهيب. وبقدرة قادر توقفت المواجهة التي كادت لو تقدمت بوصة واحدة تجرجر البلاد إلى مشروع فتنة يشكل الوجه الآخر للعدوان الذي نفذته تل أبيب نيابة عن واشنطن في شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 2006.
الآن تبدو الأمور مختلفة جزئيا. فالتأجيل جاء لتمديد فترة الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية وبعد اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة والتفاهم على خطة عمل واضحة الآليات لاحتواء الأزمة اللبنانية الثلاثية الأبعاد (انتخاب الرئيس، تشكيل الحكومة، وتعديل قانون الانتخاب النيابي).
قرار التأجيل وجه ضربة موجعة لمشروع الحل العربي وأعطى فرصة لقوى سياسية للتهجم على المبادرة والتنكيل بها وفتح الباب أمام تشويه سمعة المترشح التوافقي (قائد الجيش) والتشكيك في نزاهته وإمكاناته وقدراته. وهذا الأمر يعني أن أعلى سلطة عربية باتت في وضع غير فاعل ولا تستطيع التأثير على إدارة الأزمة واحتواء تداعياتها. كذلك أمسى الرئيس الوفاقي في دائرة الاستهداف ولم يعد يشكل نقطة تقاطع للآراء العامة. وحين تصبح الجامعة العربية خارج المعادلة، ويتحول الرئيس المرشح إلى متهم رئيسي في دائرة التجاذب السياسي، تفتح أبواب الصراع الداخلي على تشنجات أهلية تعطل على الدولة إمكانات إعادة ترميم مواقعها التي تعرضت للتقطيع والتحطيم في عدوان 2006.
المشكلة الآن باتت أصعب وأكثر تعقيدا مما كانت عليه قبل سنة. فالديون تضخمت، وأسعار السلع ارتفعت، والفوضى الأمنية اتسعت، والاستقطابات المذهبية والطائفية ازدادت رسوخا. وكل هذه السلبيات المضافة جاءت في وقت ضائع تمر به الجمهورية.
الوقت الضائع قد يعرض الكيان اللبناني لاهتزاز فعلي في حال تواصلت الهجمات على المبادرة العربية وتأخرت التفاهمات على مشروع تسوية ينقذ بلاد الأرز من السقوط في هاوية أهلية تجذب إلى أتونها كل الطوائف والمذاهب والمناطق.
لبنان الآن ينتظر عقد جلسة مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة في 27 يناير الجاري؛ لإعادة البحث في مشروع المبادرة وأسباب فشلها والأطراف التي ساهمت في تعطيلها وتجميد فاعليتها. وهذه الجلسة المتوقعة قد تساهم في تنشيط الحل، ولكنها أيضا قد تكون الأخيرة في حال تواصلت سياسة إقفال الطرق أمام محاولات تفكيك الأزمة. الاحتمالان واردان، ولكن المرجح أن يستمر مشروع تعطيل مبادرة الحل. والترجيح ليس فرضية نظرية بقدر ما يمكن رؤية عناصره الواقعية من خلال التطورات الجارية ميدانيا في لبنان. فالأمور تبدو في حال من الاضطراب وستزداد خصوبة إذا اتجهت الأطراف إلى اختبار قواها على الساحة السياسية. فالبلد أفرغ من مؤسساته ولم تعد هناك مرجعية داخلية يمكن الاعتماد عليها لاحتواء التداعيات على الأرض. والمؤسسة الوحيدة القادرة على الفعل الميداني تقتصر على الجيش وأجهزة الأمن، ولكن المؤسسة غير قادرة على ضبط التشنجات إذا خرجت عن إطارها السلمي واتجهت نحو التصادم. وفي حال نجحت الاضطرابات الأهلية في شل الجيش وتعطيل دوره الوطني في حماية الحدود وضبط الانحراف الداخلي نحو الاصطدام تصبح «الجمهورية» كلها عرضة للتآكل والانقسام والتفرق إلى «ملل ونحل» تدير شئونها الذاتية في مناطقها.
انشطار الجمهورية
انشطار لبنان إلى «جمهوريات» من الاحتمالات الواردة فعليا، حتى لو تجاهلتها أو أنكرتها القوى السياسية الفاعلة على الأرض. فالواقع الطائفي - المذهبي يؤشر إلى اتجاهات غير «وحدوية» في بلد تبدو فيه الفكرة اللبنانية ضعيفة أمام الهويات الصغيرة.
بلاد الأرز موزعة مناطقيا. والفرز الطائفي الذي بدأ في العام 1975 أنجز 75 في المئة من الانقسام بين المسلمين والمسيحيين. وفي حال تصاعدت درجة حرارة التشنجات المذهبية في الطوائف المسلمة والطوائف المسيحية فإن التصادم المحتمل سيلعب دوره في استكمال ما تبقى من فرز داخل المناطق المسلمة وربما المسيحية.
25 في المئة من مساحة لبنان تشكل نسبة لاتزال تتداخل فيها الطوائف بالمذاهب والمذاهب بالطوائف. والنسبة عالية في بلد مرت عليه سلسلة من الحروب الأهلية والإقليمية، ولكنها مخيفة ومرعبة في نتائجها السياسية؛ لأنها قد تؤدي إلى تعديل زوايا الصورة وتشكيل هيئات غير محسوبة في المعادلة الجغرافية.
الصراع سيكون على نسبة 25 في المئة من مساحة لبنان؛ لأن ما تبقى (75 في المئة) توزع واقعيا بين الطوائف والمذاهب. فالمناطق المسيحية الصافية معروفة وتشكل أكثر من 25 في المئة. والمناطق الشيعية الصافية واضحة في مواقعها وتشكل أكثر من 30 في المئة. والمناطق ذات الغالبية الدرزية تشكل نحو 10 في المئة. بينما تشكل المناطق ذات الغالبية السنية أكثر من 10 في المئة باعتبار أن الكتلة الأهلية للسنة تعيش غالبيتها في المدن الثلاث الكبرى (بيروت، طرابلس، وصيدا) وتتوزع نسبها الضئيلة الأخرى على مناطق عكار (الشمال) والبقاع الأوسط والغربي، وضواحي صيدا والجبل (إقليم الخروب في الشوف).
هذا التوزيع المناطقي للطوائف والمذاهب الجاهز جغرافيا لا يعني أن التقسيم لا يشكل مشكلة ميدانية. فالكارثة تبدأ في المناطق والأحياء والضواحي المختلطة وتلك الجيوب المنتشرة في الدوائر الصافية أو التي تتشكل نسبيا من مجموعات غير متجانسة أهليا.
الصراع المخيف سيكون إذا على نسبة 25 في المئة التي تشكل مجالات حيوية لامتدادات الطوائف والمذاهب. وبما أن المناطق المسيحية واضحة المعالم قياسا بالمناطق المسلمة فإن الترجيحات تميل إلى توقع حصول تصادمات فعلية في المناطق السنية والشيعية والدرزية المتداخلة؛ لكونها تحتضن تنويعات أهلية غير واضحة في هيئتها وصورتها.
هذه المناطق على رغم صغر رقعتها الجغرافية تعتبر حيوية اقتصاديا؛ نظرا إلى وقوع معظم المرافق المهمة في دائرتها. والمرافق في مجموعها تابعة للدولة وإداراتها أو تابعة في ملكياتها الخاصة لكل اللبنانيين من مختلف الطوائف والمذاهب. وفي حال انهارت هذه المؤسسات (المطار، المرفأ، المصرف المركزي، طريق الشام) وغيرها من مراكز وميادين (الوسط التجاري، الفنادق، شارع المصارف) فإن عصب الدولة (المشلولة والضعيفة أصلا) سيتقطع إلى أشلاء يصعب جمعها بسهولة.
المسألة خطيرة للغاية وهي تعتبر الوجه الآخر من خطة عدوان 2006 على لبنان. فالعدوان نجح في تقطيع أوصال بلاد الأرز جوا فأضعف الدولة وأبعد المقاومة عن الحدود ووجه ضربات موجعة للمشروع العربي وترك الأمور تتفاعل ميدانيا من الجنوب إلى الوسط وصولا إلى الشمال (معارك مخيم نهر البارد). الآن جاء دور تقطيع أوصال بلاد الأرز برا وهذا لا يحصل إلا إذا استمر مشروع إضعاف الدولة ومحاصرة المقاومة وتعطيل المبادرة العربية لحل أزمة الرئاسة. وهذا بالضبط ما يحصل وهذا فعلا ما تريد «إسرائيل» حصوله.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1965 - الثلثاء 22 يناير 2008م الموافق 13 محرم 1429هـ