مفردات كثيرة نستخدمها في عصرنا من دون إدراك لمعناها الحقوقي وقيمتها الإنسانية والكلفة التي دفعها البشر في تاريخهم للتوصل إلى صوغها في مصطلحات تحمل دلالات تشير إلى العدالة والمساواة والحرية. فالكلام عن العبودية وإلغاء التمييز وتحرير المرأة وحقوق الأقليات وحق العمل وتحقيق الكرامة ومسئولية الأفراد والتسامح الديني والملكية الخاصة وحرية الصحافة والسوق الحرة وحفظ المصالح وغيرها من مفردات تستخدم الآن خطابات حماسية من دون وعي لتاريخها وتلك المعطيات المكانية والزمانية التي أطلقتها وزودتها بديناميات نجحت في النهاية في تحويلها إلى نصوص دستورية تلزم الدول بتطبيقها تشريعيا وقضائيا.
مسألة حقوق الإنسان التي صاغها الإعلان الدولي الصادر عن الأمم المتحدة قبل 60 عاما جاءت محصلة التطور العمراني - المعرفي الذي عاشته البشرية وتحديدا أوروبا بعد القرن الخامس عشر. قبل هذا الزمن كانت أوروبا قارة عادية لا تختلف كثيرا عن حضارات العالم بل يمكن ترتيبها في درجة متدنية في نموها قياسا بالصين والهند والعالم الإسلامي.
خلال القرن الخامس عشر أخذت أوروبا تكتشف طريقها بعد أن ضربها مرض الطاعون في القرن الرابع عشر وأودى بحياة ربع سكانها. وبعد أن تغلبت على المرض الأصفر أخذت تتجه نحو البحث عن منافذ بحرية وخطوط تجارة بديلة تساعدها على تكوين قواعد اقتصادية مستقلة عن جارها المسلم.
الاكتشافات الجغرافية كانت خطوة أولى نحو ارتقاء درجات التقدم لاحقا. فهذه الاكتشافات فتحت أمام القارة مسارات النمو الذاتي وتراكم الثروة ما ساهم في توفير قاعدة عمرانية للتفكير في صوغ إطارات تضمن الاستقرار والرفاهية. والتفكير في المستقبل أعطى شرارة للعقل للبحث في وسائل معرفية تدفع بالإنسان نحو رؤية تتجاوز حدود القرية أو الدائرة الصغيرة التي يتحرك بها.
الجغرافيا البحرية التي انفتحت على آفاق دولية في القرن الخامس عشر عززت قوة السفينة ودورها في نقل البضاعة، كما أنها ساهمت في تطوير الاحتكاك الثقافي وصقل المعرفة بأدوات قومية وأبعاد إنسانية.
بعد هذه الخطوة بدأ الإنسان الأوروبي يتحرك لكسر الإطارات الكنسية التقليدية التي كانت تكبل وعيه وتثقله بالمخاوف والمجهول. فجاءت الحركة البروتستانتية التي وضع حجر أساسها الداعية مارتن لوثر في القرن السادس عشر. وبدأت حركة التنوير تشق طريقها من الدين (المسيحية) إلى الكنيسة (المؤسسة) حين طالب لوثر بالعودة إلى الأصول والجذور ومنع البابوية (الفاتيكان) من التدخل اليومي في حياة الناس.
الخطوة الثانية جاءت من الدين لما يمتلكه من شرعية تاريخية تعطيه قوة دفع للتوحيد والتجاوز وهذا ما أعطى اللوثرية زخما شعبويا هدد سلطة الفاتيكان وأدى لاحقا إلى كسر الكنيسة الكاثوليكية وتشطيرها إلى نصفين ما ساهم في توليد انقسامات وتجاذبات أهلية دفعت القارة إلى الدخول في حروب دينية مزقت فرنسا وألمانيا وإسبانيا وايطاليا وهولندا. امتدت الحروب الدينية نحو مئة عام قتل وجرح وشرد خلالها الملايين من البشر. إلا أن أوروبا التي عاشت الأهوال المدمرة من العام 1550 إلى العام 1648 خرجت بشخصية جديدة بعد أن أنهكت قواها وفشلت كل الأطراف المتقاتلة في تسجيل انتصار كلي ونهائي. هذا التوازن في المعادلة الكاثوليكية - البروتستانتية شجع على نمو رغبة في الهدوء والاستقرار ودعوات إلى توقيع اتفاقات سلمية بين الأطراف.
القومية والدين
انتهاء الحروب الأهلية - الدينية بالسلام الاجتماعي ادخل أوروبا عنوة في عصر الدولة المدنية والدعوة القومية. فمنذ القرن السابع عشر سيظهر إلى سطح الفلسفة السياسية مفهوم «المواطن». فالفرد لم يعد رعية تابع للكنيسة البابوية وإنما إنسان مستقل يرتبط بالدولة الوطنية ما أدى إلى تراجع علاقة الفرد بالهوية الدينية مقابل تطور المواطنة على أساس قومي. فالدين لم يعد يشكل أساس العلاقة بين الفرد والسلطة السياسية بعد أن أقتصر دوره على الروحانية والسلوك الاجتماعي. وهكذا بدأت تشهد ساحات أوروبا ظهور جمهوريات وممالك دستورية تأسست على قاعدة التوحيد القومي.
المرحلة القومية اشتد ساعدها بعد تجاوز أوروبا تداعيات انتفاضات وثورات القرنين السادس عشر والسابع عشر. إلا أن تلك المرحلة القومية لم تكن سلمية أيضا، ولكنها ترافقت مع نهوض الطباعة وحدوث ثورة علمية تمثلت في اكتشافات كوبورنيكس وغاليليو وصولا إلى إسحق نيوتن. فالعلم بدأ يشق طريقه رويدا تاركا تأثيراته المعرفية على الفلسفة السياسية ما أعطى المفاهيم الفكرية قوة دفع إضافية ساهمت في تطوير مفردات وإعادة تأسيسها على منطلقات قيمية جديدة.
دخلت المرحلة القومية لاحقا في منعطفات داخلية شجعت الدول على الانزلاق في حروب دفاعا عن المصالح والحقوق. فالحروب الداخلية (توحيد السوق القومية) والخارجية (الدفاع عن الحدود والمصالح) لم تعد دينية بقدر ما أصبحت اقتصادية ونفعية. وهذا النوع من التطور الذي بلغته أوروبا في القرن السابع عشر دفع المعرفة نحو البحث عن صيغ تتناسب مع حاجات العصر ومتطلباته سواء على مستوى تصحيح العلاقة بين المواطن والدولة أو بين الدولة والكنيسة أو بين الدولة والدول المنافسة. في هذه المرحلة، مرحلة البحث عن هوية متجانسة مع التطور العمراني اشتهرت مقولة ديكارت (1591-1650) عن العقل (أنا أفكر إذا أنا موجود) وظهرت كتابات توماس هوبز (1588-1679) عن الدولة وخضوع البشر للحاكم وصاغ ريتشارد أوفرتون (1600-1660) نظريته عن الطبيعة الإنسانية والحق الطبيعي ولكل إنسان ملكية ذاتية، وأيضا وضع سبينوزا (1632-1677) قواعد عقلانية للتفكير الديني وعلاقة الإنسان بالخالق.
أفكار ديكارت وهوبز وأوفرتون وسبينوزا كانت بدايات النهضة الفكرية وظهور فلسفة سياسية معاصرة تتعامل مع الواقع برؤية عقلانية تعتمد على الطبيعة منطلقا للقراءة التاريخية. فهذه البدايات التأسيسية شكلت مادة خام للبناء عليها وتأسيس هرمية معرفية أشعلت العقول وترافقت أو توافقت مع الانتفاضات والحروب الأهلية والتوحيدية والاستقلالية التي شهدتها تباعا كل من انجلترا (بريطانيا) والولايات المتحدة وفرنسا.
الفكر الحديث الذي انتقل لاحقا من حدوده الجغرافية القومية إلى إطاره العالمي تأسس على الثورات الثلاث (بريطانيا، اميركا، وفرنسا) التي أطلقت شرارات دولية كان لها أثرها الايديولوجي في تصدير تلك المفردات والمصطلحات إلى مختلف أطراف الكون.
بريطانيا أولا
في البدء كانت بريطانيا السباقة، فمنها بدأت حرب التوحيد (انضمام سكوتلندا إلى إنجلترا) وثم انتفاضة جمهورية قادها أوليفركرومويل انتهت بحرب أهلية وعودة بريطانيا إلى الملكية الدستورية في العام 1688. في هذه الفترة وبعدها ظهرت كتابات جون لوك (1632-1704) الذي أكد على الفردية والملكية الخاصة وحرية الصحافة والسوق الحرة والمساواة. لوك كان من الأوائل الذين وضعوا قواعد نظرية للفلسفة السياسية المعاصرة حين أكد على أن حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان وبأن الناس جميعا بحكم الطبيعة أحرارا ومتساوين ومستقلين.
مسألة «الحقوق» في طبعتها المعاصرة بدأت في بريطانيا حين صدرت في وثيقة في العام 1688. وأهمية لوك في هذا المضمار أن أفكاره ساهمت في وضع الأصول الأولى لوثيقة «الحقوق» ما أدى إلى تحويل بريطانيا إلى نموذج يحتذى في أوروبا والعالم الجديد (أميركا).
إلى كتابات لوك عن التسامح والتفهم والدولة الدستورية عرفت أوروبا الكثير من الفلاسفة السياسيين. ففي سكوتلندا ظهر ديفيد هيوم (1711-1777) ونظرياته عن الاجتماع البشري. وخرج كتاب الاقتصادي آدم سميث (1723-1790) عن السوق و«ثروة الأمم» ومقولات العدل أساس المجتمع المدني والمصلحة المشتركة وتقسيم العمل وتعاون البشر. وانتشرت كتابات توماس باين (1737-1809) عن حقوق الإنسان والحق الطبيعي بالعدالة (البشر متساوون في نظام الخلق).
كل هذه الروافد الفكرية البريطانية - الأوروبية أخذت تتجمع في أميركا (العالم الجديد) وبدأت تشق طريقها لتوليد انتفاضة استقلال ضد الحكم الاستعماري البريطاني. وشاءت المصادفة أن تلعب أفكار لوك دورها في التأثير على عقول قادة الثورة الأميركية فأقدم توماس جيفرسون (1743-1826) على كتابة وثيقة إعلان الاستقلال في يوليو/ تموز 1776 التي تضمنت فقرات تشير إلى الحقوق الطبيعية للإنسان (الناس خلقوا متساوين) وواجب الدولة في حماية الحقوق.
أهمية «وثيقة الاستقلال» الأميركية تعادل أهمية «وثيقة الحقوق» البريطانية من جانب تضمينها مصطلحات شكلت قواعد تفكير لرجال الدولة وفقهاء القانون. فالثائر جيفرسون أصبح لاحقا رئيسا للجمهورية (الولايات المتحدة) وساهم في وضع دستورها الذي نهضت عليه الدولة ما أعطى موادها قوة القانون. وبسبب هذه القوة تولدت في الولايات المتحدة حركات فكرية مناهضة للعبودية (تجارة الرقيق) أخذت تطالب بإلغاء نظام الرق الذي ازدهر في أميركا منذ العام 1502. فالقانون الذي ساهم الرئيس الأميركي في صوغ قواعده الاستقلالية - الدستورية أنتج سلسلة حلقات من رجال الدولة (أعضاء كونغرس أو رؤساء) ورجال الصحافة أخذوا على عاتقهم مهمة تحرير السود.
الثورة الفرنسية
ثورة الاستقلال الأميركية المعطوفة على وثيقة الحقوق البريطانية أسهمت في توليد قناعات فكرية فرنسية أخذت تتطور تباعا لتتشكل منها مجموعة بحوث فلسفية ودستورية وأدبية صاغتها أقلام فولتير ومونتسكيو وروسو. جان جاك روسو توفي في العام 1778 بحادث تسمم مشبوه وقبل سنة من اندلاع الثورة الفرنسية. إلا أن تأثيراته الفلسفية على فكر الثورة الفرنسية كانت قوية إذ استمدت بعض مقولاتها من كتابه الشهير «العقد الاجتماعي». فالعقد بين الدولة والمجتمع صاغه روسو على أساس القانون (كل دولة تدار بقوانين مهما كان شكل إدارتها) والمصلحة العامة/ المشتركة وحق الشعب في اختيار دستوره (يجب أن يكون الشعب الخاضع للقوانين واضعا لها).
الثورة الفرنسية تشكل الرافد الثالث لمنظومة «حقوق الإنسان». فالثورة صاغت دستورها المدني وأطلقت وثيقة مدنية (الإعلان الفرنسي) في نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1789 وهي اشتهرت لاحقا بوثيقة حقوق الإنسان. ولعبت الوثيقة دورها في التأثير على وعي النخبة الألمانية إذ أخذت تلك الشريحة من الفلاسفة تنتبه إلى مكونات نظرية الحقوق التي صاغتها الوثائق الثلاث البريطانية والأميركية والفرنسية. ولم يتأخر الوقت حتى ظهرت فلسفة ألمانية رائدة في زمانها قادها أمانويل كانط (1724-1804).
كانط يعتبر المؤسس الحديث لنظرية الحقوق إذ نجح في تكوين عناصرها الفلسفية بناء على مقولات الحرية والمساواة واستقلال كل شخص. فالحقوق برأيه تتكون من تقييد حرية الآخرين ما دفعه إلى تنظيم العلاقة بين الحاكم والمواطن ضمن شروط صنفها في أطر ثلاثة: حرية كل فرد في المجتمع بوصفه إنسانا، ومساواة كل فرد مع الآخرين بوصفهم رعايا، واستقلال كل فرد في الدولة بوصفه مواطنا. وبناء على هذه الشروط المتبادلة نجح كانط في وضع قواعد معاصرة للدولة المدنية.
بعد كل هذه التحولات انفتح الفكر الأوروبي وتطور عالميا وانتقلت المفاهيم من كونها تنظم دستوريا علاقة المواطن بالدولة في النطاق القومي إلى رؤى تنظم علاقة الإنسان بالإنسان في النطاق الكوني. فظهرت إلى جوارها فلسفات مضادة أو محاولات فكرية تريد تصحيح المبالغات التي تطرفت في التفاؤل من دون إدراك للتاريخ والتطور والاختلافات النسبية في نمو الوعي بين دولة وأخرى. وبسبب إعادة قراءة العموميات (المطلقات) في ضوء الاجتماع الإنساني (العمراني) أخذت تتأسس مدارس وضعية تحذر من المراهنات على أفكار صحيحة ولكنها عامة في دلالاتها وإشاراتها ورموزها.
مكافحة العبودية
المفكر الفرنسي إليكسس دو توكوفيل (1805-1859) قام بزيارة الولايات المتحدة بعد نحو نصف قرن على استقلالها فلاحظ الفارق الكبير بين الديمقراطية الأميركية الحديثة والديمقراطيات الأوروبية التقليدية فأرسل إشارة تنبيه تحذر من المبالغة في المساواة السياسية لأنها تحتمل إمكانات الارتداد إلى الاستبداد كما حصل في فرنسا في عصر نابليون بونابرت. كذلك طور جون ستيوارت ميل (1806-1873) في فلسفته نظريات العلم السياسي الحديث مؤكدا على أن «الأفراد أحرار في العيش كما يريدون» مطالبا بالحماية من الأذى و«ضمان حقوق البشر» حتى لا تتضارب الحرية بالحياة.
هذه الأفكار التحذيرية (التصحيحية) لم تمنع تقدم «حقوق الإنسان» استنادا على الوثائق الثلاث البريطانية الأميركية الفرنسية. فالعالم فعلا تغير وبدأ الفكر المعاصر يشق طريقه تاركا تأثيره على مختلف الحقول والعهود. ففي أميركا قام وليام لويد غارسون (1805-1879) بكتابة إعلان ضد العبودية (إلغاء الرقيق)، وقاد فريدريك دوغلاس (1817-1895) حركة فكرية ضد العبودية تطالب بإلغاء نظام الرق. وساهم كل هذا الجهد الفكري في عقد مؤتمر ضد العبودية في أميركا صدر في نهايته «إعلان 1833» وهو الإعلان الذي أعتمده الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن وأصدر بموجبه لاحقا وثيقة تحرير الرقيق بعد اندلاع الحرب الأهلية في العام 1860. ولكن الواقع الاجتماعي - السياسي كان أقوى من الأفكار وتلك المواد التي نصت عليها الدساتير. أميركا مثلا احتاجت إلى قرن إضافي حتى توصلت في عهد رئيسها ليندون جونسون إلى إعلان الحقوق المدنية في وثيقة صدرت في العام 1964 ألغت بموجبها التمييز العرقي - اللوني بين البشر ما فتح الطريق القانوني بعد نحو نصف قرن إلى فوز المترشح من أصول إفريقية بمنصب الرئاسة الأميركية.
باراك أوباما لم يدخل البيت الأبيض إلا بعد نضال مرير بدأ منذ استرقاق أول إفريقي وصل إلى أميركا في العام 1502 وانتهاء باغتيال الداعية مارتن لوثركينغ. وهذا التطور المتواصل انطلق من روافد ثلاثة: وثيقة الحقوق البريطانية، اعلان الاستقلال الأميركي، اعلان حقوق الإنسان الفرنسي. فهذه الأوراق شكلت الأساس المعاصر لتطور مفهوم حقوق الإنسان. فالحقوق ليست مفردة إنشائية جاءت من فراغ وإنما تكونت حجرة فوق حجرة وخطوة بعد خطوة وتبلورت فلسفيا ودستوريا بعد حروب مدمرة أنهكت حياة الملايين من البشر. فالوثائق تعمدت بالدم قبل أن تصاغ بالحبر الأزرق
العدد 2283 - الجمعة 05 ديسمبر 2008م الموافق 06 ذي الحجة 1429هـ