العدد 1964 - الإثنين 21 يناير 2008م الموافق 12 محرم 1429هـ

الاندماج في المدارس... قصص جديدة عن أطفال «التوحُّد»

أطلق صرخات عالية دوت في أرجاء تلك المدرسة الحكومية، وفي سلوك غير متوقع هاجم زملاءه، لكنه ما لبث أن احتضنهم وأطبقت قبلات سريعة وقوية على وجناتهم، كل ما كان يريد الوصول إليه آنذاك هو إلقاء التحية فقط لا غير، ونظرا إلى عدم قدرته على التعبير وافتقاره لأبجديات التواصل مع المجتمع عبّر عن مشاعره الداخلية وحبه لزملائه بعدوانية غير مقصودة. والآن وبعد قضائه أربع سنوات في مركز عالية للتدخل المبكر، 10 أطفال كان هو منهم انخرطوا في المدارس الحكومية وشاطروا أقرانهم مقاعدهم الدراسية وكان لهم التصفيق الأول لتفوقهم، واليوم 58 طفلا في المركز وأكثر من 100 طفل على قائمة الانتظار ينتظرون المصير نفسه والتصفيق ذاته.

«الوسط» كانت لها جولة في «مركز عالية» أخيرا لتسطير قصص أولئك الأطفال، بعضهم جاء صفحة بيضاء وآخرون قضوا أجمل أيامهم في مدارس داخلية خارج البحرين كما آثر ذوو البعض الآخر منهم أن يقطع المسافات ذهابا وإيابا ليضمن تعليم طفله المصاب بالتوحد في المركز.

****

بعد معاناة أربع سنوات وتدخل الملك لسد عجزه المالي... في «عالية للتدخل المبكر»

قصص ملامح طفولية جميلة تنتظر من يضيء دربها بشمعة

سترة - زينب التاجر

قد يخنقك ازدحام المرور على جسر سترة المعتاد وتلفح وجهك زخات المطر هنا وهناك حتى تلمح لافتة، وقد كتب عليها « لليمين مركز عالية للتدخل المبكر»، ولن تعدم الوسيلة لإيجاد موقف لسيارتك أمام ذلك المبنى الذي يبد لوهلة أنه حضانة للأطفال بألوانه الزاهية ورسومه المبهجة، وما ان تدخل من أبوابه المفتوحة على مصراعيها التي ترحِّب بالضيوف والزائرين، حتى تلمح يدا تلوح لك من بعيد لترشدك إلى مكتب الإدارة.

بابتسامة عريضة وبترحيب حار يدخل القلب وملامح سمراء تستقبلك المشرفة الفنية والإدارية في المركز هايدي وديع، وعلى عجالة تجول بنظرك هنا وهناك لأرجاء مكتب تشاركته مع إحداهن عكفتا خلاله على لملمة استمارات وأوراق وبيانات «بقايا أطفال» بحاجة لأبجديات القدرة على التواصل مع المجتمع.

شعر ناعم وآخر أجعد، بشرة بيضاء وأخرى سمراء، أطفال يختلفون في ألوان بشرتهم وملامحهم ويتفقون على صفة واحدة وهي «الجمال» فضلا عن «خفة الظل»، أطفال لا يشك الناظر لهم ولو للحظة في أنهم أطفال أسوياء يركضون ويضحكون ويطلقون النكات، يدققون النظر في كل زائر غريب علهم بذلك يجدون منه إضاءة شمعة في دربهم الطويل. حميمية المكان ودفؤه تلغي إحساسك الأول بكونه حضانة للأطفال أو حتى مدرسة للطلبة والطالبات، يجمع بين طفولية الحضانة وعلم المدارس ورسميتها، مدرسات بحرينيات وآخرون أجانب رجالا ونساء رهنوا أنفسهم ووضعوا مستقبلهم المهني على كف عفريت في مركز ظل مهددا بالإغلاق لمدة أربع سنوات في سبيل رسم السعادة على ملامح أعلى ما تطمح له أن تحيا حياة طبيعية بعيدا عن الوحدة والعجز.

لكل طفل منهم قصة وظروف قد تختلف وقد تتشابه ظروفها إلا أن نهايتها واحدة، نهاية آخر مطافها «مقعد في مركز عالية للتدخل المبكر»، يصعب علينا حصر جميع تلك القصص والقصص التالية غيض من فيض مما يدور خلف تلك الجدران الزاهية الألوان.

القصة الأولى

دموع الفرح ببزوغ الأمل

لم تستطع أن تحبس دموعها في جفنيها بعد أن تلقت مكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء يبشرها منذ أربع سنوات مضت بافتتاح مركز يعنى باستقبال أطفال التوحد في موطنها البحرين على قدر من المهنية والتطور العلمي ويعنى بعلاج الأطفال المصابين بصعوبة في التواصل والسلوك في التعامل مع المجتمع، دموع ذرفتها وهي تضحك بعد ست سنوات قضتها ذهابا وإيابا إلى إحدى المدارس الداخلية المعنية بأطفال التوحد في المملكة الأردنية.

جرت الخطى وعادت تلك الأم بطفلها ليلتم شمل عائلتها من جديد أخيرا وكانت من أوائل المسجلين في المركز، إلا أن فرحتها لم تكتمل بتحسن سلوك ابنها وبات شبح وكابوس الغربة يطاردها في كل لياليها بعد مرور المركز بضائقته المالية.

القصة الثانية

جهود في الوقت الضائع

ومن خلف جدران باردة في منازل لم تعلم بحاجة أطفالها إلى العناية الخاصة وبعد سبعة أعوام وعلى مقاعد الدراسة في إحدى المدارس الحكومية، وجد نفسه ذلك الطفل غريبا غير قادر على النطق والتعبير عما يجول بفكره، غير قادر على التواصل مع أقرانه، فما كان منه في خطوة للتمرد على المجتمع والقدر على حد سواء سوى انتهاج سلوك عدواني والصراخ عل صراخه يوصل ما يريد أن يقوله، ولعل كل ما يرنو للنطق به هو إلقاء التحية فقط، ولا تختلف قصة قرينه ذي الإحدى عشرة سنة كثيرا عنه حينما التحق بمركز عالية للتدخل المبكر بعد أن عجزت المدارس الحكومية في التعامل معه، جاء غير قادر على دخول الحمام وقضاء حاجته الأساسية، غير قادر على إلقاء التحية والتحدث وتمييز الألوان والأرقام.

إحدى عشر عاما وضعت المركز ومدرساته في تحدٍ لسباق دوران ساعة الزمن على أمل استدراك ما فات ذلك الطفل ومحاولة عدم اللعب في الوقت بدل الضائع، وبتعكزه على سواعدهن بات قادرا على التواصل مع مجتمع رفضه صغيرا وأشفق عليه كبيرا، وها هو الآن يخطو على عراقيل وضعها القدر وأخرى وضعها المجتمع ومؤسساته.

القصة الثالثة

15 عاما من الغربة

في وقت مازال اسم «مرض التوحد» غير موجود كاسم في البحرين لم تجد إحدى الأمهات مهربا من الهجرة وتحمُّل الغربة والسفر للمملكة المتحدة مقدمة عمرها قربانا لطفلها المصاب بالتوحد، 15 عاما قضتها في أروقة المراكز في بريطانيا وعادت ملقية كلمة الأمهات في إحدى حفلات المركز الخيرية أخيرا بنبرة مختنقة، لتبكي الحضور، قامته الطويلة وشعره الناعم وملامحه الهادئة وبشرته البيضاء التي ورثها عن أمه كانت السمات المميزة لطفلها الذي سافر طفلا وعاد شابا ينتظره مستقبل مشرق في مركز عالية للتدخل المبكر بسواعد منتسبيه والمشرفين عليه وسواعد من لا يضيع فرصة لرسم الابتسامة على شفاه لم تعرف سوى الألم طوال سنين.

القصة الرابعة

جسر الملك فهد وقصة الكفاح

جسر الملك فهد كان شاهدا على فصول معاناة إحدى الأسر السعودية التي آثرت قطع مسافة لا تقل عن 70 كيلومترا يوميا بهدف إدراج طفلها في الفترة المسائية الممتدة من الثالثة وحتى السابعة مساء في مركز عالية بعد أن عدمت الوسيلة في أرضها، 10 أطفال من المملكة العربية السعودية معاناتهم واحدة شرفوا مملكة البحرين التي أبت إلا أن تحتضنهم وآخرين بات قبولهم في المركز من يحدد انتقالهم للعيش في البحرين من أقاصي الشمال في الهند ومن الدول الشقيقة في الخليج.

قصة أخرى لأم من الله عليها بطفل جميل الملامح هادئ الطباع، فرحت به وأثلجت صدر زوجها ببكره إلا أن خبر إبلاغها بإصابة طفلها بالتوحد جاء صاعقة وأعاد حساباتها من جديد لتعزم على عدم الإنجاب مجددا لا اعتراضا على حكمة وقدر الله وإنما خوفا من المصير المجهول لابنها.

القصة الخامسة

الخوف من المجهول والقدر

لم يكن إحساس الأطفال وذويهم بالخوف مقتصرا عليهم، فقد شاءت الظروف أن تضع الاختصاصية في تعديل السلوك مريم عون في طريق هؤلاء الأطفال، معلمة فصل بدوام حكومي وراتب ثابت تأتي صباحا وتغادر المدرسة بعد الظهر، جاء ترشيحها كمنتدبة لوزارة التربية والتعليم لتكون اختصاصية في مركز عالية ونظرا إلى حياتها مع خمسة إخوة من المصابين بالتخلف العقلي وتلمُّسها لمعاناتهم قبلت هذا الانتداب بكل رحابة صدر، وشاء القدر أن تلتحق بالمركز وفي أحشائها طفلها البكر، تسعة أشهر صارعت فيها الكآبة والخوف من المجهول خوفا لا يقل عن خوفها من القدر وغدره بأن يكون طفلها مصابا بالتوحد أو التخلف العقلي وبانقضاء شهور حملها من الله عليها بطفل معافى إلا أن إحساسها بخوف لازمها ولاسيما بعد تعلقها بأطفال المركز الذين اعتبرتهم أطفالها.

وبنبرة ملؤها التحدي أكدت عدم ندمها على خوض هذه التجربة، آملة من وزارة التربية والتعليم أن تمدد فترة انتدابها وأن ترق القلوب على هذا المركز وتدعمه بشكل أكبر.

منى خليفة جاءت مشاركتها في المركز اختصاصية تواصل بمحض الصدفة بعد قراءتها لإعلان في الصحف اليومية عن وجود شاغر وظيفي في المركز، وإيمانا منها بثواب هذه النوعية من الأعمال انخرطت في المركز متحدية كل العراقيل لتصاب بالإحباط وتتبدد أحلامها بعد تناقل الصحف لخبر إغلاق المركز، وما أن لاحت في الأفق أصداء تكفل جلالة الملك بدعم المركز حتى تنفست الصعداء، آملة ألا تغفل القلوب الرحيمة السعي لنيل هذا الثواب في الدنيا والآخرة بدعم المركز.

القصة السادسة

التصفيق الأول للإنجاز الوليد

10 أطفال اندمجوا في مدارس المملكة الحكومية ممن كانوا في يوم من الأيام على مقاعد مركز عالية للتدخل المبكر، جاءوه صفحة بيضاء وخرجوا منه أطفالا قادرين على التواصل مع المجتمع يلهون ويضحكون ويعبرون عن فرحهم وغضبهم واستيائهم وإعجابهم بكل أريحية وبلا قيود وأغلال ظل المرض في ليالٍ قاسية يكبلهم بها، وعلى مقاعد المدارس الحكومية وبفضل جهود المركز كان لهم التصفيق الأول و تشاطروا كراساتهم وأقلامهم مع قرائهم الأسوياء وشاركوهم ملاعبهم وساحاتهم، وها هم يحملون على عاتقهم شكر لله ومن ثم المركز وكل يد امتدت ليكونوا في هذا الموقع في يوم من الأيام.

58 طفلا وأكثر من 100 على قائمة الانتظار، لاحت لهم في الأفق بارقة أمل بتصريح جلالة ملك البلاد أخيرا بتكفله بسد العجز المالي في المركز على أن تكون تغطية العجز ودعم المركز ماليا بشكل دائم على نفقته الخاصة حرصا من جلالته على استمرار المركز في تقديم برامجه وخططه التعليمية لفئة ذوي الاحتياجات الخاصة من أطفال التوحد، على حين تنفس ذووهم الصعداء بعد أن أقلق مضاجعهم هاجس إغلاق المركز مع كل ضائقة مالية خلال السنوات الأربع الماضية.

مبنى لأطفال التوحد مع وقف التنفيذ

إلا أن الطموح مازال كبيرا والتحديات أكبر وبعد هذه الخطوة الملكية لا بد أن تصل أصوات أطفال غير قادرين على التواصل مع المجتمع إلى جميع المؤسسات والشركات في القطاع الخاص، من أجل دعم المركز، وأن تحفز جميع الوزارات والجهات الرسمية الأخرى على مد يدها بأكبر مساعدة ممكنة، ولاسيما أن متوسط كلفة الاستشاريين الدوليين الذين يشرفون على تدريب الأطفال والمدرسات، يبلغ 100 ألف دينار في العام، وبذلك فإن المركز مازال في أمسِّ الحاجة إلى استمرار التبرعات وزيادتها، إيفاء بمتطلبات استمراره، فضلا عن حاجته إلى بناء مقره الجديد على الأرض التي قامت وزارة التنمية الاجتماعية بتخصيصها إليه في منطقة عالي ضمن مجمع الإعاقة.

«عالية» في سطور

أربعة أعوام مضت على افتتاح مركز عالية للتدخل المبكر ضم في بادئ الأمر 16 طفلا ليرتفع العدد اليوم إلى 58 طفلا على فترتين مسائية وصباحية فضلا عن وجود أكثر من 100 طفل على قوائم الانتظار، حياتهم مرهونة باستمرارية المركز وفق سقف تطلعات القائمين عليه. وكل عام يمر يدق ناقوس الخطر، منبئا بضرورة تدارك علاج المصابين بالتوحد، كادر متنوع من البحرينيين والأجانب رجالا ونساء تدشن لهم مؤسسة أميركية زيارات كل ثلاثة إلى ستة أشهر وتوافيهم بآخر تطورات علاج التوحد ليتم تطبيقها على الأطفال.

بخلاف مرضى التخلف العقلي وغيرهم، يخضع مرضى التوحد لعلاج متخصص يقوم على حالات فردية متمايزة لا تتشابه حالة مع الأخرى في أعراضها فضلا عن علاجها وبغياب الإحصاءات في وزارة الصحة عن أعدادهم فضلا عن عدم التيقّن بمسببات المرض التي أرجعها البعض إلى الوراثة والجينات في حين حصرها البعض الآخر في تزايد نسبة السموم والمعادن وغيرها. وتزداد نسبة الإصابة بالتوحد في العام لتصل الآن إلى 14 طفلا في كل 1000 طفل وفق ما تشير له الإحصاءات العالمية الرسمية.

جهود المركز كبيرة وخطوة جلالة الملك متوقعة، وليس بغريب على مجتمع يوصف بالتكافل الاجتماعي أن يمد يدا بيضاء لرسم ابتسامة أمل على شفاه لا تعي سوى البراءة، فضلا جهود عن مؤسسات حكومية على رأسها وزارتي التربية والتعليم والتنمية الاجتماعية بالتعجيل في دعم المركز، فكل دقيقة تمضي يمضي معها أمل علاج تلك الملامح الجميلة.

العدد 1964 - الإثنين 21 يناير 2008م الموافق 12 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً