هذا ما انتهى إلينا من تاريخ كربلاء، حفظته لنا الدموع الغاليات التي سالت كالينابيع الحارة المتدفقة عبرالقرون. أربعة عشر قرنا لم تتوقف النياحة والبكاء على الحسين وما توقف لطم الصدور.
نحن جيلٌ عابرٌ، سرعان ما ستطوينا الأرض تحت طبقاتها، ويخلفنا من يأتي بعدنا، وتبقى ذكرى الحسين الحارقة للقلوب. نبوءةٌ أطلقها الإمام جعفرالصادق(ع)، حين قال: «إنّ لمقتل جدي الحسين حرارة لا تبرد أبدا». لم تكن المسألة مسألة بكاءٍ وضعفٍ وخواء، وإنّما هي فلسفة وضع أركانها الأئمّة من أهل البيت النبوي الشريف، لحفظ «أمانة كربلاء» حيث لا يصل السوس ولا اختلاف المذاهب ولا أموال السلطة التي تشتري المؤرّخين والشعراء والمثقفين، ولم يكن هناك ما هو أضمن لخلودها من إيداعها في صناديق الضمائروالقلوب.
لم تكن المسألة بكاء لا معنى له، وتاريخا مضى وانقضى، حتى يأتي بعض أبناء هذا الجيل الأخير؛ ليتفلسف بالمطالبة بتجاوزالماضي وإعلان نهاية حقب الأحزان الطويلة. كان فعلا واعيا، واستراتيجية ذكية أثبتت التاريخ نجاحها الباهر في ديمومة كربلاء حية مع الأجيال، يغترف منها كلّ جيلٍ ما يناسبه من النهر الذي صار صنوا والخلود.
كان «البكاء» بناء شامخا، وضع أئمة أهل البيت أركانه التي باتت تتحدّى الزمان، وبدأوا بأنفسهم في إحياء ذكرى عاشوراء، فليس هناك مصيبة إلاّ هوّنتها مصيبة حفيد محمد (ص)، وليس هناك قتيلٌ أغلى وأعلى وأسمى ممن قُتل عطشانا غريبا في صحراء كربلاء.
كانوا إذا هلّ هلال محرم، أعدّوا منازلهم لاستقبال الشعراء، وضربوا الأستار بين الرجال والنساء لإقامة مجالس العزاء. كان غيرهم يجمعون الشعراء؛ ليسمعوا منهم المدائح الكاذبة والأشعارالتي يفوح منها الكذب والنفاق، مقابل ما يتلقونه من أموال السحت المنهوبة من بيت مال المسلمين والفقراء، أمّا هؤلاء فيستقبلون الشعراء الذين حملوا صلبانهم؛أي(خشباتهم) على ظهورهم، وقضوا حياتهم في رثاء الشهداء وحمل رايات التبشير بيوم الخلاص الذي لا يأتي. زادهم ما يسمعونه من الأئمّة من كلمات تشجيع وثناء: «رحم الله مَنْ أحيا أمرنا... رحم الله مَنْ بكا وأبكى (على مصيبة الحسين». لم يكن لهم مالٌ يشترون به الضمائر غير كلمات الحق والمراهنة على صفاء النوايا ونقاء القلوب.
استراتيجية حفظت كربلاء حية حارقة تكوي القلوب، أثبت التاريخ نجاحها طوال 14 قرنا، فهل هناك أي وسيلةٍ أخرى غير الدموع حتى يأتي جيلنا الأخير المهذار؛ ليكثر من ذمّ هذه الطريقة ويمعن في فلسفة الأمور؟ هل كانت كل فلسفات الكون قادرة على حفظ حرارة مشهد أحد الفرسان العطاشى وهو يرمي الماء من كفّه لأنه تذكّر عطش الأطفال في الخيام؟ أي فلسفة ترقى إلى التعبيرعن مشهد حرق الخيام وفرار النساء الغريبات في الصحراء عند ساعة المغيب؟ أليس السر في خلود غالبية آداب الأمم الكبرى هو ما يغلفها من غلالة الحزن الشفيف والعاطفة التي تستدر الدموع؟
نحن جيلٌ عابرٌ مغرور، سرعان ما ستطوينا الأرض تحت طبقاتها، وستبقى ذكرى الحسين نهرا يغتسل فيه طلاب الحرية والمتطلعون ليوم الخلاص، وستظل عاشوراء ذكرى حارقة تكوي القلوب.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1963 - الأحد 20 يناير 2008م الموافق 11 محرم 1429هـ