هل يتجّه لبنان نحو الاصطدام الداخلي بعد أن انغلقت أمامه كلّ الأبواب؟ احتمال المواجهة مسألة باتت مرجحة بعد أن اقفلت كلّ الممرات. وفي علوم السياسة والحرب هناك نصائح كثيرة تقال لمنع الاقتتال منها أنّ الأطراف المتناحرة يجب أنْ تعطي للخصوم مجالات للهرب ومنافذ للخلاص. ولكن حين تلجأ القوى إلى إقفال كلّ الممرات والطرقات تصبح المواجهة مسألة مفروضة.
في لبنان تبدو كلّ القوى محاصرة وموضوعة عنوة في غرف مغلقة لا تستطيع الخروج منها أو كسرها. وحين تقفل الأبواب وتسد الثغرات وتقطع على الناس إمكانات الفرار وتمنع عن البشر إمكانات التفكير بملاذات آمنة تضطر القوى في النهاية خوض المغامرة في اعتبارها المجال الوحيد المتروك لاختبارالقوة في الميدان.
تفخيخ مشروع «الحل العربي» للأزمة اللبنانية أصبح أمرا واقعا بعد أن اقفلت الأطراف أبواب التفاوض وقطعت على بعضها ممرات التوصّل إلى صيغه تفاهمية عادلة تأخذ المبادرة العربية بالتدرج من فوق إلى تحت. فالمبادرة واضحة في خطواتها الثلاث التي تبدأ بانتخاب رئيس، وتشكيل حكومة، وتنتهي بتعديل قانون الانتخابات النيابية. ولكن القوى المحلية المفتوحة على ساحات إقليمية وجواريه ودولية تنافست على سد المنافذ ومنعت الأمين العام لجامعة الدول العربية من ترسيم معالم طريق تنقذ لبنان من الانفجار والانهيار.
انفجار بلاد الأرز مسألة مرعبة ويبدو أنّ هذا البلد المسكين والمستضعف وضع على سكة الانهيار ولم يعد بالإمكان وقف القطار أو الحد من سرعته.
هذا الاحتمال المخيف لم يعد فرضية وإنما يمكن ترجيحه في اعتبار أنّ القوى الواعية والعاقلة وصاحبة النفوذ على الأرض توصّلت إلى قناعات ليست بعيدة عن خيارالقوة. والقوّة عادة تبدأ تحت شعارات سياسية ومظلات محكومة بالتوازنات ولكنها حين تدخل ساحة المعركة تتحوّل إلى أداة دافعة تولّد شرارات من الصعب السيطرة على انفعالاتها وتداعياتها.
خطورة الوضع في لبنان الذي تحوّل إلى ساحة مفتوحة ومكشوفة تتجاذبها القوى الدولية والإقليمية والجوارية تكمن في تركيبته الطائفية والمذهبية وما تعنيه التركيبة الديمواغرافية من امتدادات تخترق الحدود الجغرافية للبلد الصغير. وهذه “الخصوصية” اللبنانية المفتوحة على أبواب متنوعة قد تؤدّي إلى تطوير نوع من الجاذبية لا يستبعد أنْ تستدرج إلى ساحة بلاد الأرز كلّ مخلفات المنطقة لتفعل فعلها ليعاد تصديرها إلى الخارج بعد حين.
كلّ هذه الاحتمالات السلبية لابد من وضعها في الحسابات العاّمة والخاصة. فهذا البلد صغير في حجمه الجغرافي، ولكنه يمتلك قدرات غير محسوسة في تثويرعناصر خفية لا تدرك إلاّ بعد السقوط فيها. وسياسة الاستقواء أو حتى الاستخفاف بالآخر تعتبرمن المطبات الخطيرة التي يخطط لاستدراج المنطقة إليها. فهذا البلد الذي مرّ بحروب أهلية وإقليمية خسرالكثير ولم يعد في حال مريحة بسبب التناحرالقائم في ساحاته. ولهذا السبب أصبح في موقع المستعد للانتحار والتضحية بكل ما عنده دفاعا عن اعتبارات تتصل أحيانا بوجوده السياسي (الكياني) أو الطائفي أو المذهبي.
الانتحار
سياسة الانتحار يمكن ملاحظتها ومشاهدتها من خلال متابعة الخطب والتصريحات والتعليقات والأفعال وما يعقبها من ردود فعل تصدرمن مختلف الجهات. فالكلّ يتجّه نحو الاصطدام. وحين تصبح مختلف الأطياف غير قادرة على التنازل أو القبول بالحد المعقول للتسوية معطوفا عليها مجموعة مخاوف تبدأ الهدنة الأهلية بالانحسارلتظهر تحتها كلّ تشوهات البلد وتضاريسه المذهبية والطائفية. ومَنْ يراهن على السياسة فهو يرتكب حماقة؛ لأنّ البلد إذا انجرف إلى الاصطدام فإنّ كل حسابات السلم ستنهار لتقوم مكانها معادلات أخرى متصلة مباشرة بحسابات تعكس تركيبة البلد وتشكيلاته.
السياسة في لبنان ضعيفة. والانقسام الحاصل في هذا البلد الصغير ليس سياسيا حتى لو ظهرت وجوه من هذه الطائفة أو تلك المنطقة تقول الكلام المخالف. فحين تندلع المواجهات تبدأ الساحات بإنتاج آليات مضادة لكلّ الشعارات الجاهزة والمقولبة. فالعنف يطلق شعارات متجانسة إلى حد كبير مع انفعالات الشارع ومزاجه وتكوينه. وهذه الحقيقة المرة تدركها القوى العاقلة ولكنها تبدوغير قادرة على ضبطها أو منع وقوعها. وهذا يعني أنّ موضوع الانفجار بات من الأمورالمقبولة حتى لو أدّى إلى إطلاق شرارات تحرق القريب منها قبل البعيد.
انهيار «الحل العربي» في لبنان سيفتح على القوى المحلية مجموعة من الاحتمالات الخطيرة منها تفعيل التدويل ونقله من السياق النظري إلى العملاني، ومنها تفعيل التقاطعات الإقليمية (السورية - الإسرائيلية) وإمكان إعادة إنتاجها في صيغة معدلة، ومنها تفعيل الحروب الداخلية وإطلاق دورة من العنف الدموي بهدف اختبارالقوة في الميدان الأهلي.
الاحتمالات الثلاثة واردة وكلها خطيرة. والأخطر منها أنها قد تحصل مجتمعة ودفعة واحدة. فالتدويل ليس خيارا ولكنه يصبح موضوع بحث إذا وجدت القوى الدولية أنّ الأقليات في لبنان معرّضة للتهديد. والتقاطع الجواري ليس خيارا ولكنه يُعاد طرحه على ساحة التداول إذا وجدت القوى الإقليمية أنه يشكل ذاك الملاذ الآمن لمنع الاقتتال الأهلي من الانتشار والانتقال. والتصادم الطائفي - المذهبي ليس خيارا ولكنه يتحوّل إلى مشروع داخلي في حال وجدت الأطياف الأهلية أنها مكرهة على خوض غماره.
المسألة إذا خطرة للغاية وهي تتطلب فعلا المزيد من التدخل العربي لمنع الانزلاق نحو هاوية يصعب قياس عمقها من الآنَ. وبقدر ما تسرع الدول العربية في تدخلها لضبط الانهيار تكون قد قامت بواجباتها السياسية والقومية والإسلامية والإنسانية لإنقاذ البلد الصغيرمن الدمار. المؤشرات سيئة للغاية وكلّ القوى السياسية الفاعلة على الأرض باتت شبه جاهزة للانقضاض وربما الانتحار. وحين تقفل الأبواب أمام الناس للهرب من النيران يصبح الخيار الوحيد أمامها مواجهة النار... وهنا بالتحديد تبدأ الكارثة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1963 - الأحد 20 يناير 2008م الموافق 11 محرم 1429هـ