صور المشهد الفلسطيني مؤلمة من مختلف الجهات. في غزة تمارس «حماس» وظيفة حرس حدود وتهادن حكومة تل ابيب وتستخدم حصار الاحتلال لأهالي القطاع ذريعة للتهجم على الدول العربية ولحسابات حزبية. في الضفة الغربية تهاجم «قطعان» المستوطنين كما وصفهم الرئيس الفلسطيني أحياء مدينة الخليل وقرى رام الله ونابلس وتقتحم المنازل وتحرقها والمساجد تدنسها. في القاهرة تعطلت إمكانات الحوار الوطني بين الفصائل بسبب المزايدات الحزبية ومقاطعة «حماس» جلسات المصالحة تحت ستار من الذرائع الايديولوجية. في تل أبيب تتجه الحكومة نحو تجميد مسار التفاوض الثنائي مع السلطة الفلسطينية بعد إعلان الاحتلال الضفة الغربية منطقة عسكرية معزولة مقابل إعادة تنشيط التفاوض على خط المسار السوري.
صور المشهد الفلسطيني في حال أعيد ترتيبها في إطار دولي (أميركي) واقليمي «شرق أوسطي» تعطي فكرة عن تحولات قد تخلط الأوراق وتعدل زوايا الطاولة في المشهد المقبل حين تنتهي رسميّا فترة رئاسة محمود عباس ويتم تسلم وتسليم مقاليد الرئاسة في الولايات المتحدة في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل. فالإدارة الأميركية الجديدة تحمل معها ملفات مختلفة في جدول أولوياتها عن الإدارة الحالية. والطاقم الإداري الذي يساعد الرئيس المنتخب باراك أوباما يقرأ المشهد الفلسطيني من زوايا مخالفة جزئيا وتكتيكيا للتصورات التي تعتمدها إدارة بوش.
هناك وجهة نظر قوية في إدارة أوباما تعطي أولوية للجانب السوري في المفاوضات وتهمل أو تقلل من أهمية الجانب الفلسطيني. ووجهة النظر هذه قالت بها جهات مقربة من الرئيس المنتخب بذريعة أن التفاوض مع السلطة الفلسطينية طويل ومعقد ومتشعب لأنه يتعرض لنقاط ساخنة ومن الصعب التوصل إلى حل بشأنها (القدس، جدار الفصل العنصري، المستوطنات، العودة وغيرها من ملفات) بينما التفاوض مع دمشق بسيط وسهل ولا يحمل تلك التعقيدات الصعبة لكون المشكلة تقتصر على الجولان وتمديد الهدنة مقابل ضمانات إقليمية متبادلة.
هذا الرأي يحتمل مجموعة تفسيرات لكنه في النهاية يطرح فعلا إشكالية كبيرة أمام السلطة الفلسطينية في نهاية الشهر المقبل باعتبار أن حكومة إيهود أولمرت وأي حكومة اسرائيلية بديلة تقرأ المسألة في الاتجاه الأميركي نفسه. فتل أبيب ترى أن مشروعها الاستيطاني يتركز الآن في الضفة الغربية بغض النظر عن هوية السلطة الفلسطينية التي تشرف على الحكومة وتدير شئونها. وبهذا المعنى الجغرافي - السياسي تعطي تل أبيب أهمية خاصة للضفة وتضعها في المقام الأول في خطط الاحتلال والاستيطان وبعدها يأتي موضوع قطاع غزة والجولان. القطاع غير مطروح على جدول الاستيطان لمجموعة اعتبارات عقائدية وتاريخية وجغرافية وسكانية. كذلك الجولان يحتل أهمية ثانوية قياسا بموضوع احتلال القدس وتوسيع المستوطنات في الضفة والسيطرة على الخليل ومحاصرة المدن وعزلها عن القرى الفلسطينية.
مسألة الأولويات مهمة لأنها تساعد على قراءة السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط الصغير» وتعطي فكرة عن اهتمامات واشنطن ورؤيتها للعلاقات الدولية في منطقة استراتيجية وغنية ومهمة في التأثير على التوازنات. وتعديل الأولويات لا يعني بالضرورة تغيير الثوابت. فالاستراتيجية الأميركية لن تتعدل سواء من جهة ضمان أمن «اسرائيل» أو من جهة تأمين امدادات النفط. الثوابت ستبقى تراوح مكانها والمتغير الوحيد سيقتصر على جدول الأولويات وبرنامج الإدارة في الأسابيع الأولى من بدء عملها وتحركها ميدانيّا.
ملفات أوباما
مراقبة برنامج الأولويات يبدأ من كيفية تعامل إدارة أوباما مع الملفات وتأخير مسألةٍ وتقديم أخرى عليها. وهذا الأمر يمكن الإشارة إليه من خلال مطالعة مقالات وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبريت والمساعد السابق لشئون الشرق الأوسط دنيس روس وغيرهما. فالمقالات تنصح الرئيس أوباما بتعديل سياسة التفاوض والتوجه إلى دمشق لبحث موضوع الأراضي السورية المحتلة بذريعة أن الملف المذكور أسهل ومثمر أكثر ومردوده أوسع لأنه يتضمن مجموعة نقاط تتصل بضمان أمن «إسرائيل» وإمكان ضبط الحدود في لبنان على غرار ما هو حاصل الآن في اتفاق الهدنة (الجولان) واتفاقية التهدئة (قطاع غزة).
النموذجان الجولاني والغزاوي يشكلان الآن محط أنظار وإعجاب طاقم الإدارة المساعد للرئيس المنتخب. فالطاقم الصاعد مع أوباما يحث على تجميد المسار الفلسطيني واستبداله بالمسار السوري حتى تستطيع الإدارة الدخول منه لفتح مجموعة ملفات أخرى تبدأ بحزب الله في لبنان وتنتهي بالملف النووي في إيران. وطموح الطاقم الإداري يتركز الآن على تشجيع السياسة الاسرائيلية الحالية التي تفضل بدورها وقف التفاوض مع سلطة عباس وتثبيت اتفاقية التهدئة مع «حماس» وتمديدها وإعادة تنشيط المفاوضات غير المباشرة مع دمشق عبر القناة التركية وتطويرها لاحقا لتتحول إلى مباشرة.
هذه الصورة الأميركية - الإقليمية يحتمل أن تظهر قريبا على ساحات «الشرق الأوسط الصغير» وهي في مجموعها تتضمن مقاربات مختلفة جزئيّا عن المرحلة السابقة لكنها ليست متعارضة مع الثوابت الاستراتيجية التي تقضي بتغييب القضية الفلسطينية عن المشهد التاريخي. والتغييب لا يمكن أن يحصل من دون تحطيم الصورة الفلسطينية وتقسيمها وتفكيكها وتعطيل وحدتها في وقت يستمر الاحتلال في توسيع مساحة المستوطنات وتسليح المستوطنين وتشجيعهم على التحصن والتهجم على القرى والأحياء لإظهار الصعوبات والتذرع بها للتهرب من المسئولية أو الانسحاب من مناطق الاحتلال. وما يحصل في قطاع غزة سواء بعلم «حماس» أو من دون علمها وموافقتها يكرس هذا التوجه الأميركي ويعطي الاحتلال فرصة للتلاعب وإخراج فلسطين من معادلة السلم أو الحرب.
مفارقات سياسية تمر بها فلسطين وهي الأخطر منذ غياب ياسر عرفات عن المشهد. وهذه المفارقات صعبة لأنها بدأت تزعزع القضية من الداخل ويمكن في حال تطورت نحو الأسوأ أن تؤدي إلى انقسامات أهلية تعطل الحوار الوطني من جانب وتكرس التهدئة مع الاحتلال من جانب. وهذا الاحتمال السلبي هو بالضبط ما تريده «اسرائيل» لتبرير خطة الاستيطان في الضفة الغربية وتطويرها نحو تكريس الاحتلال.
المفارقات السياسية التي بدأت بالانقسام الحزبي (فتح وحماس) وتطورت نحو ازدواجية السلطة ثم تفكيكها إلى حكومتين في الضفة والقطاع أعطت فرصة لحكومة إيهود أولمرت لتحسين مواقع الاحتلال وتعزيز خطة التوطين وتسليح المستوطنات والبدء في الانتقال إلى طور الهجوم واحتلال المنازل ومحاصرة القرى بهدف تصوير المشهد وكأنه معركة داخلية تحصل بين السكان وليس بين الاحتلال وأهالي الضفة. المشهد الفلسطيني مؤلم من مختلف الجهات ويحتاج فعلا إلى مراجعة في ضوء متغيرات محتملة في جدول أولويات الإدارة الأميركية المقبلة. وهذه المراجعة يصعب توقعها في حال واصلت «حماس» توظيف حصار غزة وأزمة الحجاج لحسابات حزبية أو انتخابية مقابل تصعيدها التهجمات على الدول العربية ومقايضتها بتمديد التهدئة مع تل أبيب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2283 - الجمعة 05 ديسمبر 2008م الموافق 06 ذي الحجة 1429هـ