كربلاء... ستبقى عبرة تتجدد عبر التاريخ. نهرٌ يفيض بالأحزان كل عام، فينهل منه عشاق الحرية دفقات تطهر النفوس وترقق المشاعر والقلوب.
هذه الذكرى التاريخية تُسترجع مكللة بالأشجان والأحزان كل عام، وليس مثل الحزن مطهرا للقلوب. لا يمكنك أن تتكلم عن كربلاء وتحبس دموعك في مآقيها. بخيلٌ من يسمع عن عطش عيال الحسين ولا يبكي. متحجِّر المشاعر من لا يهزُّه مقتل حفيد الرسول وقطع اصبعه من أجل خاتم، والتمثيل بجسده ووطئه بالخيول. هذه الفظاعات لم يقترفها حتى عرب الجاهلية، فكيف حدثت في الإسلام؟!
حين دخل جيش محمدٍ مكة فاتحا، أمر عمَّه العباس بأن يحبس جد يزيد بمضيق الوادي حتى تمر به الكتائب الظافرة، فأخذته الرهبة، فقال للعباس: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما»، فرد عليه: «إنها النبوة». بعد نصف قرن فقط تنقلب الموازين، فيقف حفيده في قصر الخلافة المنتهبة بالشام ليقرع رأس حفيد محمد، ويتفاخر بأجداده المشركين من قتلى بدر، ويقول فاجرا:
لعبت هاشمُ بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
انحدارٌ أخلاقي وقعت فيه الأمة الجديدة التي تبشر برسالة الأخلاق والمثل، وهو ما شخَّصه الشاعر سليمان بن قتّة حين مرَّ بكربلاء ووقف على قبور الشهداء وأخذ يتذكر منازلهم المهجورة في يثرب:
مررتُ على أبياتِ آل محمدٍ فلم أرها أمثالها يوم حُلَّتِ
وإن قتيل الطفِّ من آل هاشمِ أذلَّ رقابَ المسلمين فذلَّتِ.
هذا الشعار الحكيم، اعتبره بعض دارسي الأدب أول من رثا الحسين، بينما ذهب آخرون إلى بشر بن حَذْلَم، الذي استقبل قافلة الأسرى الصغيرة عند عودتها من الشام، فأمره علي بن الحسين بأن يدخل المدينة لينعى أباه، فربط بشر رأسه بعصابة سوداء، وعصَّب فرسه برباط أسود أيضا، ولما أشرف على المدينة صاح:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فمدمعي مدرارُ
الجسم منه بكربلاء مضرجٌ والرأس منه على القناةِ يُدار
يا أهلَ يثربَ شيخُكُم وإمامُكم هل فيكم أحدٌ عليه يغار
وعلى هذا الطريق مرت قافلةٌ طويلة من الشعراء، لم يكن أولهم الفرزدق وأبوتمام وأبوفراس... وليس آخرهم الحلي والجواهري الكبير... يعطرون أشعارهم برثاء السبط الشهيد. ولكن، هل أوفى الشعر بحقِّ الحسين؟ هيهات.
إن من عِبَر التاريخ الكبار، أن هذا الغريب الذي وقف يستنهض ضمائر القوم الميتة، ويحذرهم من مغبة قتله، فأجابوه برش السهام، هذا الغريب استبدله الله بأقوام من لغات وأوطان شتى، يحرصون على إحياء ذكراه عبر القرون، ولعن قاتليه المَرَدَةِ الجفاة من شذَّاذِ الآفاق ونَبَذَةِ الكتاب، الذين انقلبوا من بعد إيمانهم كفارا بقتل أبناء الأنبياء، كفرا بما أنزل على محمد (ص).
هذا القتيل الذي منعوا عنه الماء، بعث الله عبر الأجيال من يُطعم الفقراء وينشر الموائد ويقدِّم النذور من أجله تقربا إلى الله ورضوانه.
القتيل الذي حُرقت خيامه، فلم تجد نساؤه ملجأ غير التستر بالظلام، أقام له عشاقه بيوتا ومآتم عامرة في كل بلد، وقلوبا تضمه في حناياها.
القتيل الذي أضاعه معاصروه فلم يعرفوا جليل قدره، بعث الله علماء وشعراء وفقهاء و... جماهير تملأ الآفاق عبر القرون، يتشرفون بأن يكونوا من «خدَّام الحسين».
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1962 - السبت 19 يناير 2008م الموافق 10 محرم 1429هـ