عاد ملف توطين الفلسطينيين في لبنان ودول الجوار إلى احتلال موقع الصدارة في السجالات السياسية الدائرة في المنطقة. فالملف المسكوت عنه بسبب الضعف العربي وعدم وجود استراتيجية موحّدة تحدد جدول أعمال جامعة الدول العربية بشأن نقطة حسّاسة استخدمت مرارا للتخويف وإثارة القلاقل الأهلية في محيط فلسطين.
هذا الضعف شكّل ثغرة في الجدار العربي ودفع القوى السياسية إلى المزايدة بشأن هذا الملف الخطير نظرا لكونه يمثل سلسلة زوايا في رؤية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ مع يوم النكبة في العام 1948.
ستون عاما مضى على الكارثة التي تمثلت في اقتلاع الشعب من أرضه وتشريده على مساحات عربية مجاورة لفلسطين. فالشعب آنذاك أصيب بضربة عجزت الدول العربية في التعامل معها. وأدّى الأمر إلى نزوح الناس من قراهم وبلداتهم ومدنهم واللجوء إلى لبنان وسورية والأردن ومصر إلى فترة مؤقتة حتى تكون الأمور تبلورت ميدانيا على الأرض.
النزوح المؤقت تحوّل إلى لجوء دائم حين تأسست دولة «إسرائيل» على أراضي 1948 وألحق قطاع غزّة مؤقتا بالإدارة المصرية بينما ألحقت الضفة الغربية والقدس بالإدارة الأردنية الهاشمية. وبدأت منذ تلك الفترة مشكلة اللاجئين تأخذ أبعادها الإنسانية والسياسية. إنسانيا تأسست هيئات دولية للإغاثة وإعانة النازحين وتأمين الحد الأدنى من العيش والسكن. وسياسيا صدر عن مجلس الأمن القرار الدولي 194 الذي يُطالب «إسرائيل» بعودة النازحينَ إلى ديارهم وتعويض الخسائر التي أصابتهم.
منذ العام 1948 بدأت المشكلة وتحددت أدوات حلّها. ولكن «إسرائيل» كعادتها رفضت تطبيق القرار والتجاوب معه متذرّعة بالكثير من الأسباب والعوامل والدوافع. وأدّى الأمر إلى إثارة مشكلة سياسية مزمنة عبّرت عن نفسها بأشكال فلسطينية وعربية مختلفة. فلسطينيا ظهرت أحزاب وهيئات ومؤسسات وحركات تحرر تطالب بالعودة. وشكّل موضوع العودة قاعدة أيديولوجية لرفض ما يسمّى بالتوطين. وعربيا تعاملت الدول مع اللاجئين بطرق مختلفة لأسباب سياسية أو كيانية أو ديموغرافية (سكّانية). فهناك مَنْ وجد في المشكلة مسألة سياسية تستوجب قراءة طويلة المدى ورأى أنّ العودة مؤجّلة وربما تكون مستحيلة وتتطلب الحروب لتنفيذ ما ورد في القرار الدولي من بنود تؤكّد هذا الحق. وهناك مَنْ تعامل مع المشكلة من منطلق إنساني ورأى في المسألة مرحلة مؤقتة ولابدّ أن تتوافق الدول في النهاية على إيجاد حل للمأساة.
اختلاف التعامل أدّى إلى تأسيس مشكلة أخرى. فمن تعامل مع الكارثة سياسيا ورأى أنّ حلها يتطلب الوقت نجح في اعتماد قنوات لتنفيس الضغط الإنساني من خلال احتواء مطالب الناس المدنية والمهنية. ومَنْ تعامل مع المصيبة إنسانيا ورأى أنّ المشكلة مؤقتة اتبع أساليب قصيرة الأجل لاحتواء متطلبات الناس وحاجاتهم.
استمرت أزمة النازحين تتجاذب الأنظمة العربية إلى أنْ وقعت حرب يونيو/ حزيران 1967. وشكّلت الهزيمة العسكرية السريعة للدول المجاورة مشكلة إضافية حين ازدادت إعداد النازحين وأخذ اللجوء يتضاعف ويتنوع. فبعد العام 1967 ستصبح مسألة العودة نقطة توتر تقض استقرار المناطق العربية المجاورة في اعتبار أنّ العودة لم تعد مطروحة الآنَ ولابدّ من احتواء الإضافات الإنسانية التي قذفتها الهزيمة.
موضوع التوطين المؤقت أو الدائم تحوّل بعد 1967 إلى مشكلة سياسية. فالشعب الفلسطيني الذي تعرّض إلى نكبتين بات في حال من التمزق الأهلي حين توزعت قواه على ثلاثة مستويات. فهناك أولا الأقلية الفلسطينية في أراضي 1948 وتحديدا في منطقتي الجليل الأعلى في الشمال وصحراء النقب في الجنوب. وهناك ثانيا الغالبية الفلسطينية في أراضي 1967 (الضفة والقطاع والقدس) التي باتت تخضع للاحتلال الإسرائيلي المباشر . وهناك ثالثا النزوح الفلسطيني الموزّع على الأردن وسورية ولبنان.
مشكلة الحل
أصبحت فلسطين موزّعة بشريا على ثلاث مناطق بعد هزيمة 1967 وهذا الأمر طرح مجموعة إشكالات سياسية تركزت كلّها على ضرورة الإجابة عن سؤال «ما هو الحل؟». كيف يمكن حل المأساة؟ الحل كان يحتاج إلى سياسة عربية واضحة تشرف على احتواء تفاعلاتها جامعة الدول بالتعاون مع الأمم المتحدة. إلاّ أنّ سياسات التأجيل والتسويف والمماطلة الدولية أدّت إلى مفاقمة المشكلة وأورثت دول الجوار مصاعب اجتماعية وإنسانية ساهمت في تحويل «العودة» إلى نقطة توتر أهلية لعبت دورها في تفجير الوضع في الأردن في العام 1970.
بعد الأردن انتقلت المشكلة السياسية إلى لبنان الذي يُعاني موضوعيا من معضلة طائفية ومذهبية لا تسمح بابتكار حلول تتجاوز حسابات الطوائف والمذاهب والمناطق الضيّقة في مساحاتها الجغرافية والمحدودة في وعيها ورؤيتها لهذه المأساة. وبسبب ضيق الأفق السياسي تحوّلت مسألة «التوطين» إلى نقطة تستخدم في تأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية وتستعمل داخليا للتحريض والتأليب بقصد إثارة الفتن الأهلية. فالدولة عاجزة عن حل المشكلة واستيعابها. والنظام الطائفي غير قادر على ابتكار قنوات تعالج متطلبات النزوح وحقوق اللاجئين المدنية والمهنية والنقابية والإنسانية والسياسية.
ولهذه الاعتبارات الخاصة تحوّلت مسألة العودة إلى حاجة لبنانية داخلية تصطدم بعقبات دولية وضعف عربي. كذلك أصبح «التوطين» فزّاعة تستخدم للتخويف والتهويل والإثارة السياسية بقصد إعادة توظيفها في حسابات طائفية ومذهبية داخلية.
شكّل هذا الملف عقدة أهلية استخدم مرارا للاستقطاب السياسي المحلي وأدّى إلى فتح سلسلة تشنجات شكّلت في العام 1975 واسطة للحروب الأهلية والإقليمية التي انتهت باتفاق «الطائف» من دون أنْ تتوصّل القوى اللبنانية إلى تفاهم بشأن القنوات الواجب اتباعها لاحتواء أزمة أكبر من لبنان والمنطقة وتحتاج إلى استراتيجية عربية مشتركة لضبطها تحت سقف دولي.
الآنَ أعيد طرح الملف مجددا في لبنان بعد جولة جورج بوش في المنطقة تأسيسا على كلام أطلقه الرئيس الأميركي في القدس. فهذا «الرجل المختار» أطلق ثلاث فقرات غامضة، واحدة تتعلّق بمشروع الدولتين، وثانية تتصل بمسألة «يهودية إسرائيل» وثالثة أشارت إلى احتمال التفكير بآليات لتعويض الفلسطينيين.
الفقرات الثلاث كانت كافية لإثارة الهواجس والمخاوف اللبنانية بشأن توطين الفلسطينيين الذين مضى على وجودهم في المخيّمات نحو 60 سنة. وشكّلت الفقرات الثلاث مادة طرية للتخوين وتوزيع الاتهامات وإثارة فوضى سياسية قد تؤدّي إلى إشعال فتنة مذهبية وطائفية أسوأ من تلك التي شهدها لبنان في العام 1975 بذريعة رفض التوطين.
الذريعة لاتزال موجودة وبدأت القوى الطائفية والمذهبية التلاعب بها على رغم إدراكها أنّ مسألة التوطين مرفوضة وغير مقبولة ولا يمكن تعديل حق العودة من دون موافقات دولية وعربية وفلسطينية ولبنانية. فالمسألة كبيرة ولا يمكن الدخول في حلّ لها من دون تجاوز عقبات تبدأ بالأمم المتحدة (إلغاء القرار الدولي وهذا احتمال مستبعد) وتمر بجامعة الدول العربية (قرار عربي يفوّض الدول بالحل وهذا احتمال مستحيل توقع حصوله) وتنتهي بمنظمة التحرير الفلسطينية وتعديل ميثاقها فضلا عن إلغاء برامج فصائلها. وأخيرا لابدّ أن يمر موضوع «التوطين» بالقنوات اللبنانية المختلفة في طوائفها ومذاهبها وصولا إلى توافقات الرئاسات الثلاث وتصويت مجلس النواب بغالبية الثلثين وأكثر، مضافا إليها تعديل الدستور (اتفاق الطائف) الذي تنصّ مقدمته على رفض التوطين.
المسألة لبنانيا غير واردة؛ لأن حل المشكلة أكبر من مساحة البلد الصغير ولا يمكن في حال من الأحوال أنْ تقوم فئة واحدة بأخذ قرار خطير يمس «حق العودة» من دون عودة إلى مراجع عربية ودولية وموافقة فلسطينية.
فكرة «التوطين» كذبة يراد من ترويجها إثارة فتنة أهلية أسوأ من تلك التي افتعلت في العام 1975 وأدّت إلى زعزعة الكيان ولم تحقق هدف العودة. فالمصلحة اللبنانية تقتضي التأكيد على حق العودة حتى لو كانت الفكرة مؤجّلة أو غير مطروحة الآنَ على جدول أعمال الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. أمّا «التوطين» فهو موضوع آخر؛ لأنّه يتصل بمدى استخدامه واسطة لإثارة الفتنة وتخريب ما تبقى من كيان لبنان.
أخطر ما في الموضوع الذي مضى عليه 60 عاما هو أن يتحوّل إلى ذريعة للاستقطاب الأهلي وجرجرة البلد الصغير إلى فوضى سياسية تزعزع الكيان وتحطمه بناء على كلام أطلقه الرئيس الأميركي. وربما يكون الهدف من إعادة التذكير بالفزّاعة وافتعالها وطرحها بصفتها مشكلة آنية تحتاج إلى حل فوري، هو إثارة فتنة تبدأ وهمية وتنتهي إلى كارثة تحرق «لبنان الأخضر»، ويبقى موضوع «التوطين» أو «العودة» من دون حل. وهذا الاحتمال السلبي بدأت قوى الفتنة بالترويج له في الآونة الأخيرة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1962 - السبت 19 يناير 2008م الموافق 10 محرم 1429هـ