قرار التصعيد العسكري الذي اتخذته حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ضد قطاع غزة في الساعات الأخيرة من نهاية جولة الرئيس الأميركي جورج بوش في «الشرق الأوسط» وجّه سلسلة إشارات داخلية وإقليمية ودولية.
داخليا أراد أولمرت تأكيد تفوقه الحربي على جبهات القتال وتطمين القوى المحلية إلى قدراته على مواجهة ما يسميه التهديدات الأمنية في مناطق الجنوب المحيطة بالقطاع. وجاءت رسالة التطمين في ثلاث مناسبات. الأولى استقالة وزير حزب «إسرائيل بيتنا» من الائتلاف الحكومي؛ ما عرّض وحدة الوزارة إلى خطر التفكك والانهيار. الثانية اقتراب موعد صدور تقرير لجنة «فينوغراد» بشأن إخفاقات الحرب على لبنان في صيف 2006 وهو موعد يرجح أن يضع أولمرت في زاوية حادة تضطره إلى مغادرة الحكم أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة قبل نهاية السنة الجارية. والثالثة تعارض وجهات نظر القوى الحزبية الإسرائيلية المنضوية تحت مظلة حكومة أولمرت. فهذه القوى ليست موحدة في توجهاتها السياسية المتصلة بالتوطين والاستيطان وتوسيع المستوطنات وبناء المزيد من الوحدات السكنية في القدس والضفة.
المناسبات الثلاث شكلت ذريعة ايديولوجية للضغط العسكري على غزة والتهرب السياسي من استكمال التفاوض مع سلطة محمود عباس. النقطتان متصلتان. الضغط على غزة عسكريا يساهم في الضغط السياسي على سلطة عباس ويدفع الأخير إلى الانسحاب أو تجميد التفاوض باعتبار أن تل أبيب تستخدم الكلام اللفظي عن السلام وسيلة للقتل والاقتلاع والتشريد.
مجموع هذه العوامل الداخلية ليست منعزلة عن تلك المتغيرات الإقليمية والدولية التي شهدتها المنطقة خلال جولة بوش وقبلها ويرجح أن تتضح صورتها بعد انتهاء جولته.
المتغيرات الإقليمية مترابطة أيضا، وهي متصلة الحلقات من غزة إلى البصرة. غزة تشكل الحلقة الضعيفة في السلسلة وتمثل بالنسبة إلى حكومة أولمرت ذاك المختبر الميداني الذي منه يمكن قياس درجة الحرارة في المنطقة. فهي مثلا اختبرت ميدانيا في الحرب على السلطة الفلسطينية بعد أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في ربيع 2006 وانتهى الأمر بتحطيم البنية التحتية للقطاع وانهيار السلطة وتفككها ثم انقسامها إلى حكومتين لاحقا. ومهد العدوان على غزة إلى تنظيم عدوان على لبنان في صيف 2006 بذريعة أسر جنديين إسرائيليين على الحدود الدولية. وانتهى أمر العدوان على بلاد الأرز إلى تحطيم البنية التحتية للدولة وإضعاف السلطة وتفكيك الحكومة وتوجيه ضربات موجعة لمشروع إعادة الإعمار العربي. هذا الحقل الاختباري في القطاع غير مستبعد تَكراره ولكن ضمن شروط دولية موصولة بتحولات إقليمية تبدأ من غزة أيضا. السيناريو يمكن أن يعاد إنتاجه وفق ظروف بدأت تشهدها المنطقة منذ العام 2006 وتحديدا بعد إجراء الانتخابات التشريعية النصفية (الكونغرس) في الولايات المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني. فالانتخابات الأميركية شكلت مناسبة لتيار «المحافظين الجدد» لإعادة تدوير الزوايا وإعطاء فرصة لمدرسة «الواقعية السياسية» التي يقودها الثنائي رايس - غيتس.
تيار «الواقعية السياسية» بدأ اتصالاته الجدية قبل الانتخابات النصفية بفترة طويلة معتمدا على قنوات أوروبية ومحايدة. وتبلورت الخطوط العريضة للاتصالات من خلال اللقاءات والاجتماعات التي عقدتها لجنة بيكر - هاملتون (الديمقراطية الجمهورية) مع دول منطقة «الشرق الأوسط» بقصد تحديد المخارج التي يمكن اعتمادها لإنقاذ الولايات المتحدة من «الورطة» العراقية.
تقرير بيكر - هاملتون صدر نهاية العام 2006، ولكن توصياته واتصالاته واجتماعاته الاختبارية حصلت قبل أشهر من صدور التقرير. فاللجنة الثنائية الديمقراطية والجمهورية المشتركة بدأت نشاطها قبل سنة تقريبا من توصيات التقرير، وأخذت تتصل بالجهات المعنية وتستعلمها وتطلع منها على السبل الواقعية والعقلانية التي يمكن اتباعها للخروج من مأزق العراق.
في تلك الفترة تسربت معلومات صحافية غير دقيقة عن وجود اتصالات أميركية - سورية اتخذت مجموعة نقاط للبحث، منها مساعدة اللاجئين العراقيين الذين نزحوا إلى سورية هربا من العنف الطائفي والاقتتال المذهبي. كذلك تسربت معلومات عن وجود لقاءات غامضة بين أميركا وإيران بشأن الملف العراقي والوسائل التي يمكن اعتمادها لتخفيف الضغط الأمني على الاحتلال في بلاد الرافدين.
مظلة بيكر - هاملتون
تحت مظلة بيكر - هاملتون فتحت قنوات سرية ورفعت حواجزُ وتأسست علاقات تحت عناوينَ مختلفةٍ امتدت من غزة إلى البصرة. وقبل صدور تقرير اللجنة وقع العدوان على القطاع وتحطمت السلطة ثم حصل العدوان على لبنان وتم تقطيع أوصال الدولة وجرت الانتخابات النصفية في أميركا، وبعدها صدرت توصيات بيكر - هاملتون التي تنصح إدارة بوش بإجراء اتصالات مع سورية وإيران بشأن الملف العراقي.
الاتصالات كانت حاصلة ولكنها تطورت بعد صدور التقرير واتخذت من التوصيات الذريعة السياسية لاستكمال ما تم التوصل إليه في لقاءات سابقة. الاختلاف الوحيد كان في صيغة الحوار الذي انتقل من «السرية» إلى «العلنية» وبدأ يتفرع ويمتد من العراق إلى لبنان وفلسطين.
خلال العام 2007 حصلت لقاءات كثيرة تحت عناوينَ مختلفةٍ واعتمدت قنوات متنوعة المصادر والمصبات وكلها تمّت تحت مظلة المكاشفة والمساعدة والتعاون «الفني» و «التقني». فالعام 2007 يمكن اعتباره عام التسويات السياسية التي وصلت في بعض مستوياتها إلى طور متقدم من التفاهمات الميدانية في غزة (اتصالات مع «حماس») وفي لبنان (اتصالات مع دمشق بشأن ترتيب أوضاعه القلقة) وفي العراق (اتصالات مع طهران تناولت الملف الأمني ومشروع التخصيب).
انتهى العام 2007 إلى منتصف الطريق. فالتفاوض مع «حماس» وصل إلى نقاط متقدمة بشأن الأسير وحجم المبادلة ومدى استمرار الالتزام بوقف إطلاق الصواريخ على المستعمرات في الجنوب (المناطق المجاورة للقطاع). والتفاوض مع دمشق وصل إلى نقاط لا بأس بها بشأن تجميد ملف الجولان وإعادة فتح قنوات على الساحة اللبنانية. والتفاوض مع طهران وصل أيضا إلى توضيح ملابسات سياسية تتعلق بالملف النووي مقابل تفاهمات وضمانات ومناطق نفوذ في بلاد الرافدين.
2007 سنة التفاوض السياسي العلني و «السري». وهذا ما يمكن الإشارة إليه في المناطق الثلاث (غزة ولبنان والعراق) ومن خلال قنوات الاتصال المباشرة أو بواسطة أطراف إقليمية وأوروبية ثالثة أو محايدة. إلا أن السنة انتهت إلى طور يشير إلى وجود عقبات تعترض استكمال النصف الثاني من طرق المفاوضات.
بدأ العام 2008 بجولة بوش في المنطقة. وهذه الجولة تأتي في الوقت الضائع (السنة الأخيرة من عهده) وفي ضوء تصورات غامضة صدرت عن «مؤتمر أنابوليس» بشأن «الشرق الأوسط». جولة بوش تفترض البدء في إنهاء مهمات محددة. وهي تعتمد على احتمالين: وقف التفاوض في منتصف الطريق والعودة إلى سياسة «المحافظين الجدد»، أو إعادة تنشيط قنوات الاتصال واستكمال النصف الآخر من الطريق.
إدارة بوش تعيد الآن دراسة النتائج وتقويمها تمهيدا لوضع الخطط والتصورات في السنة الأخيرة من عهد الجمهوريين في واشنطن. فهي إما أن تتجه نحو التصعيد وهذا ما رفضت مصر ودول الخليج العربية التجاوب معه، وإما أن تتجه نحو استكمال التفاهم مع إيران وسورية الذي أوقف في منتصف الطريق، وإما أن تبتكر آليات لسياسة جديدة وغير مدرجة في الحسابات.
احتمال التصعيد بات مستبعدا بعد صدور تقرير المخابرات الأميركية المشتركة بشأن تجميد إيران برنامجها العسكري منذ العام 2003. وما يعزز استبعاد التصعيد صدور تصريحات متكررة من دمشق وطهران برفض المواجهة العسكرية أو اللجوء إلى القوة لحسم الخيارات.
احتمال استكمال التفاوض لإنجاز ما تبقى من نتائجَ ميدانيةٍ مسألةٌ مرجحةٌ، ولكنها تحتاج إلى إعادة تقويم لتحديد حجم الخسائر والأمكنة التي ستكون موضع اقتسام النفوذ.
احتمال اللجوء إلى مغامرات بهدف قلب الطاولة وتعديل توازنات مسألة غير مطروحة في سنة الانتخابات الرئاسية الأميركية... إلا إذا توصل «الرجل المختار» إلى قناعات ذاتية تجدد تلك الخيارات الايديولوجية التي أطلقها خلال سنوات عهده.
ما يحصل في غزة هو إشارة ميدانية لبدايات سياسية غير واضحة المعالم. وفي ضوء نتائج تلك العملية العدوانية المستمرة على القطاع يمكن رسم بعض خطوط الصورة باعتبار أن غزة تشكل الحلقة الضعيفة في السلسلة الممتدة إقليميا من الضفة إلى لبنان وانتهاء في البصرة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1961 - الجمعة 18 يناير 2008م الموافق 09 محرم 1429هـ