سبق أن قلنا ونبهنا وأشرنا سلفا في مقالاتنا إنّ لم ولن ولا وليس من المجدي والمجزي والمعقول والمقبول منطقيا أن يتم طرح قضايا التمييز الطائفي الوظيفي بمختلف وجوهها في هذا البرلمان بهذه التركيبة وفي هذه المرحلة على وجه الإفراد والتحديد، وليس لذلك من سبب وجيه إلا أن برلماننا في حد ذاته هو جزء كبير لا يتجزأ من تلك الأزمة الطائفية الراسخة وصيرورة التأزيم الطائفي في هذا البلد الموبوء!
وأعني بـ «البلد» هذا البلد الذي اكتشف الكثير من أهله ومثقفيه أخيرا أنهم «روافض» و «نواصب» أو «ملاحدة + شياطين VS نواصب + روافض» في الوقت الذي بلغت أمم وأقوام أخرى ذروات الأمجاد والكشوفات والفتوحات في سائر المجالات الحيوية، وإن كنت أجزم أنّ إن كان هنالك من روافض ونواصب في بلادنا ومن بيننا أولا وآخرا فهم من يرفضون المصلحة الوطنية حلا ومبدأ، ومن يناصبون المصلحة والحلول الوطنية سوء العداء!
وتكون قضية التمييز الطائفي في هذه البلاد الحافلة بالآهات والمقاساة أكثرَ القضايا وضوحا وبروزا ونفورا وانفضاحا على السطوح حتى السماء السابعة. وهي القضية التي من الممكن والمتاح أن ترصد لها أطنانا من الأوراق وغالونات من الحبر وشواهدُ يوميةٌ من الحالات إلى ما لا يوشك له من انتهاء بما فيها أقرب المحافل إلى النواب الأفاضل سواء بالقرب من المنصة أو داخل المبنى أو أبعد عنه بقليل. وهي القضية الجذرية الأم التي لا يتعطل أبدا في استيعابها أكثر الأطفال عتها وبلاهة في مجتمعنا ليس لسبب إلا لمؤسسات وكيانات وشركات وقطاعات حيوية في الدولة أشبه ما تكون بالكانتونات والمستوطنات الطائفية والفئوية وشبكات العناكب المصلحية. فترى أوجها وذقونا ولكنات وطقوسا متشابهة إلى حد تبهر وتدهش وتذهل فيه من المستوى المذهل الذي بلغه أبناء هذا البلد وأشباههم في «صلة الرحم» وفي توادهم وتراحمهم، وربما تتذكر أمام مشاهدَ كثيرةٍ طافحةٍ بالألفة الشاذة كهذه أغنية مسلسل الكارتون الشهير «سنان» وهي «ما أحلى أن نعيش في بيت واحد... ما أحلى أن نكون في وطن واحد»!
وإن كان من حديث عن شروط موضوعية جعلت برلماننا المأزوم نسيجا لا يتجزأ من قفا الأزمة الطائفية في البلاد فهي موجودة بكثرة. والحمدلله على ذلك عسى أن يفرح بها المتهربون دوما من نقد الذات والمصرون على ارتكاب الحماقات السياسية تلو الحماقات تلو الحماقات. وهذه الشروط بلا شك يعرفها الجميع وتفصح عن نفسها وتفضحها يوميا وأفصحت عن نفسها وفضحت نفسها كثيرا قبلها حد انعدام الحياء الإنساني والوطني والأدبي، ومنها ابتداء وجود طابور نيابي خامس في البرلمان متأهب ومتأهل لإثارة الفتن الطائفية وعرقلة عمل البرلمان، وخلق القضايا من العدم وإن كانت جميع قضايانا المتراكمة منذ ما يزيد على ثلاثة عقود هي قضايا عدمية. وهو طابور خامس مدلل يحظى بدعم وعناية فائقة من «المحافظين الجدد - فرع البحرين» تشبه عناية الغربيين بحيواناتهم الأليفة!
وربما الغريب في أمر هذا الطابور الولائي الخامس المفصّل والمقولب والمخطم هو أنه يعمل ويسير وينجز ضد نفسه في كل مناسبة. وما ليس بغريب عنه أبدا هو أن هذا الطابور البرلماني الخامس يتهم «الوفاق» بمناسبة أم من دونها بـ «التأزيم» وأنها المشكل الرئيسي في البرلمان، ويتهمها بأنها تتدخل في صلاحيات السلطة التنفيذية وتزعجها وإن كان هذا الطابور لا يفرّق بين سلطة تنفيذية وسلطة تشريعية وسلطة تلفيقية!
أما عن الشروط الذاتية التي تجعل برلماننا امتدادا لا غنى عنه لنسيج المعضلة الطائفية في هذا البلد فهي الأخرى كثيرة أيضا. والحمدلله على ذلك عسى أن يفرح بها المفرطون في نقد الذات إلى حد جلدها وتقريحها من دون تشريحها ومعالجتها. وعلى رأسها خطيئة «الوفاق» السياسية القاتلة أولا وأخيرا التي ارتكبتها في حقها وفي حق حلفائها من تنظيمات المعارضة الوطنية وفي حق الشعب البحريني وقضاياه الوطنية الكبرى أولا وآخرا وذلك حينما زفت إلى برلمان مفروش طائفيا بعِدّة طائفية أخرى أكثر تأهيلا للانخراط في جو المسرحية والاشتعال طائفيا برغبة أم من دون رغبة. فلا أحد سيمنع الوقود الأحفوري حينها من الاشتعال إذا ما تحرشت به ألسنة اللهب. ولا أظنني بمثل هذا الاتهام القاسي الذي لن أكِلّ من تَكراره سأتهم بـ «جلد الذات» و «تسقيط (الوفاق)»؛ لكون «الوفاق» قد أسقطت جميع حلفائها الآخرين من قائمتها الكبرى ممن قد كان بإمكانهم أن يكونوا وردا منعشا لا غنى عنه في هذه الحالات، فهم على الأقل سيسندونها للوقوف بأنَفَة وطنية أمام تلك السيناريوهات التطييفية السخيفة، وسيثبتون ويزيدون من بلاغة حجتهم العذرية والاعتذارية للجماهير إن كانت وأتت حينها!
ومن بعد تلك الخطيئة السياسية القاتلة التي أحدثت نزيفا معنويا لم ينتهِ حتى الآن، وقعت «الوفاق» في خطيئة سياسية أخرى لا تحمد عقباها في تحديد غالبية وجوه قائمتها التي قلنا إنها أصلح لأن تكون شاهدة على العصر في برنامج أو فيلم وثائقي من أن تدخل بطيش في مغامرة ومجازفة احترافية تأسيسية كبرى في التجربة البرلمانية، وحبذا لو أن «الوفاق» اتبعت على الأقل منهاج حزب الله النيابي الأكثر تقدمية بأشواط نوعية كبرى عن المنهاج «الوفاقي» الارتجاعي هنا في البحرين. إذ وضعت هنالك الكوادر والخبرات المعرفية والميدانية في الصميم النيابي من دون ولع مجنون بالكاريزما الأسطورية والإنشاء المتسيس الحافل بالإسقاط التليد كما يحصل لدينا هنا!
وهناك خطيئة سياسية أخرى شيدت نفسها على أعتاب الخطايا السياسية التي قبلها. وتجلت في اختيار رجل دين على رأس لجنة «وفاقية» برلمانية معنية بطرح ملف كبير وحساس وخطير كالتجنيس. وهو ما يكرس في حد ذاته أزمة للتمثيل الرمزي الطائفي لطرح هذا الملف الوطني في البرلمان، ويطرح الهواجس الطائفية المبررة بقوة لدى الكثير من القوى والتيارات التي تعد كسب ثقتهم وتعاونهم فرصة لا غنى عنها أبدا في حلحلة هذا الملف الوطني الكبير!
فلا أدري على أي أساس من العقل والمنطق والتفكير السليم تم ذلك الاختيار والتعيين لرجل دين لا يحظى بإجماع داخل «التيار الوفاقي» أساسا، ولا إجماعا من حلفاء «الوفاق»، ولا يتمتع أصلا بخلفية معرفية حقوقية وسياسية واقتصادية معتبرة تؤهله لشغل مثل هذا المنصب الخطير ذي المسئوليات الكبرى والذي لا يحسد عليه صاحبه، فمهما كانت النية من التعيين فلا أظن أن هنالك خطيئة سياسية أمرّ وأمض من سوء التدبير والاختيار. ولا أظن أن هنالك حالا أسوأ من حال شعب ذي قضية ناجحة وقد فرض عليه توكيل محامٍ أثبت إخفاقه المستمر في أدائه وعدم إلمامه بأساسيات مهنته ومساره ومضمون حجته للدفاع عنها!
أما بالنسبة إلى مهزلة المهازل وأم الخطايا السياسية فهي مغامرة الإخوة الأفاضل في «الوفاق» بعقد تحالف مع كتلة «الأصالة». وهو تحالف رومانسوي سياوسوي ذو بعد غرائزي في سطحيته ليس له من هوية وسمة هزلية فاقعة سوى زواج «اقحطة» من «نبوية» في «درب الزلق» الذي لم يدم للأسف كثيرا!
فإن تستجوب «الأصالة» الوزير عطية الله وتقف مع «الوفاق» في ذلك الموقف أشبهُ بأن تقوم «الوفاق» بمعونة «الأصالة» باستجواب الشيخ عيسى قاسم في البرلمان!
حتى إن إبراهيم بوصندل اعترف بأنه ليس أخ حسن مشيمع، وإن كنا تمنينا أن ينل على الأقل وضعية وخصوصية أبي هيثم المختلف سياسيا مع إخوته في «الوفاق»، ويحتوي بذلك بقايا التحالف الثنائي المنكر من جانب واحد. ولكن من ذا سيسمع النصيحة حتى بعد «فلعة التمييز الوظيفي» في الناصية السياسية لـ «الوفاق»؟
وإن أصر الإخوة في «الوفاق» ومريدوهم على نكران النصيحة واتهام مطلقيها بـ «التسقيط» والتربص السياسي المنافس، وإن أصروا على تقبل موقف المخذول والمرذول والمستضعف سياسيا في هذا البرلمان حتى نهاية السنين الأربع المقبلة، فإني أترجاهم وغيرهم بملء الرجاء الحار أن يتوددوا ويتجاملوا ويتحملوا داخل البرلمان قدر المستطاع، ولا بأس إن لعنوا وتنابزوا مع بعضهم بعضا سياسيا وطائفيا في الغرف والمخادع المغلقة. فعلى الأقل تطبق مقولة المناضل الوطني الكبير عبدالرحمن النعيمي - شافاه الله - المشهورة: «إذا لم ينجر الإخوة في هذا البرلمان إلى صراع وافتتان طائفي خلال السنين الأربع المقبلة فسيكون ذلك أفضل مكسب برلماني للشعب»!
أن تطبق تلك المقولة في اعتقادي خير بألف جدوى سياسية عاقلة من أن يكون شأن إخوتنا كشأن من أراد أن يفقأ دملة قذرة - أعزكم الله - تستقر على قدم مشبعة حد الثمالة بداء السكري. فقادها بذلك إلى جحيم الغرغرينا وحتمية البتر والاستئصال والإعاقة والفقدان الحميم!
برلماننا إن كان على أصل تكوينه منخالا إلا أنه لا ينخل أبدا الذهب الطائفي. والناس في هذه البلاد أصبح حالهم في شغفهم ولواعجهم الساعية وراء الطائفية والتطييف أشبه بحال مئات الآلاف من الأميركيين إبّان مرحلة «حمى الذهب» - (Gold Rush) التاريخية في الفترة المتراوحة بين 1848 و1855م حينما نزحوا وغيرهم من مغامرين أتوا من مختلف مناطق العالم وأقاليمه إلى ولاية كاليفورنيا بتعطش رهيب للتنقيب عن الذهب حيث أعلن اكتشافه، وواجهوا ما واجهوه حينها من مخاطرَ ومصائبَ أليمةٍ حتى وصلوا، إلا أن كثيرا منهم عاد بعد ذلك إلى بيته بخسران رهيب!
فهل سينشق في بلادنا «دجلة السني» و «الفرات الشيعي» عن جَبَلْ أو عن جِبلة من ذهب طائفي متألق كشفقٍ من لهب؟
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1961 - الجمعة 18 يناير 2008م الموافق 09 محرم 1429هـ