في محرم... ترك الإمام الحسين (ع) الدنيا بجسمه، ولكنه بقي فيها روحا وفكرا ومنهجا ودربا يعبره السائرون نحو الملكوت الأعلى، وبقي صدى صوته يهزّ الأجيال: «خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»... وبقي بريق دمه ينير ليل الأمة ويصنع فجرها المأمول.
وبقي كل ذلك بهمم رجال بذلوا حياتهم وكرسوا أوقاتهم لرفع لواء أهل البيت (ع)، فمع بدء شهر محرم الحرام للعام 1429هـ بدأت تشبعنا عدد من القنوات الفضائية بإعلانات إصدارات جديدة مسجلة على هيئة رسوم متحركة أو فيلم سينمائي لواقعة الطف وأبطال واقعة الطف.
وفي موضوع توظيف السينمائيين والفنانين ملحمة الطف في السينما، نسلط الضوء في «ألوان الوسط» على هذا الواقع؛ فتاريخ الفن السينمائي تاريخ معروف - بخلاف الفنون الأخرى - وهذا يجعل مهمة الباحث والناقد أكثر يسرا، ولأن قصص الأنبياء والقديسين والمأثورات الشعبية ذات الطبيعة الدرامية، استهوت المخرجين الرواد، فألهمت مأساة المسيح جماعة لومير (يروتو وجورج هاتو)، فأخرجا في باريس 1897 مشاهد حياة وآلام المسيح، والطريف أن الفيلم صور في بوهيميا، حيث كان الفلاحون التشيكيون يؤدون هذه الطقوس تمثيلا، وهكذا وبعد مضي قرن على نشوء هذا الفن الجميل، أنجزت السينما العالمية أكثر من 2000 فيلم عن حياة المسيح.
وقد ساعد ضعف التمفصل الكنسي بالبنية الفنية في المجتمع الغربي، على الحرية النسبية، لتجسيد الشخصيات المقدسة، لم يحدث هذا في عالمنا الإسلامي، فالإنتاج السينمائي بدأ بشكل متواضع في هذه البلدان في عشرينيات القرن الماضي فلم تقترب هذه السينما من الموضوعات الدينية، إلا بشكل سطحي وساذج، وكانت غالبا ما ترمز إلى الشخصيات المقدسة (النبي محمد (ص)، آل البيت، الصحابة الكرام)، أما بلقطة سينمائية (ضوء ساطع، ريح، باب) أو راو من خارج الملاك يحكي أو يروي السيرة النبوية أو ما يتعلق بالمقدس.
أنتجت السينما المصرية عشرات الأفلام من هذا النوع، وأخفقت تماما في توظيف البعد الديني، الأمر الذي جعل السينما الإيرانية أكثر جرأة في تناول تاريخنا الإسلامي - وخصوصا واقعة الطف - كون المرجعية التشريعية صاحبة الحق في منع ووضع محددات، هي ذاتها المؤسسة الدينية الإيرانية.
قبيل الثورة الإسلامية كانت السينما تعبر عن الدين من خلال الشعارات، وبعد الثورة تغير الأمر تماما، فأيديولوجيا الدولة هي ذاتها القيم التي أعطى الحسين (ع) نفسه وعائلته وأصحابه فداء لها، ففيلم «السفير» للمخرج فرييرز صالح أول فيلم أنتج بعد الثورة في العام 1982 وتدور حوادثه حول مرحلة من حياة الإمام الحسين (ع) وهي فترة وفود مسلم ابن عقيل إلى الكوفة، وفيلم تفتيش خاص لمنصور تهرائي 1983 يتناول العزاء واللطم والضرب على الصدر، وكذلك الفيلم المهم «عينان بدون ضياء» لمحسن مخملباف 1983 ويحكي عن الاستشفاء بالإمام الرضا (ع) وهنالك فيلم «ليلة العاشر» لجمال شورجة 1987 الذي يتناول العاشر من المحرم ضمن إطار روائي. هذه الأفلام وغيرها استطاعت التعبير عن حقيقة الثورة الحسينية وأبعادها الفكرية والأخلاقية.
الحضور القوي والمحترم للسينما الإيرانية في المحافل الدولية والمهرجانات شجع الدول الإسلامية والعربية للنهل من هذا الخزين الدرامي الكبير، ولأن جرأة المؤسسات التلفزيونية من الناحية الاقتصادية أكبر من المؤسسة الإنتاجية في السينما، نرى الدراما تناولت تاريخنا الإسلامي بشكل كبير ومتنوع، ويحسب لهذه الدراما التعريف بالكثير من الشخصيات والحوادث للمتلقي العربي والإسلامي، إلا أن السينما ظلت تتوجس خيفة من هذه الموضوعات «فجر الإسلام، أخت الرسول، رسول الحرية، إلخ»، عدا أفلام تعد بالأصابع. ولعل أكثر الأفلام إثارة وأهمية فيلم «الرسالة» لمصطفى العقاد الذي أنتج وأخرج بمباركة المؤسسات الدينية، ومع ذلك لم يعرض التلفزيون المصري الفيلم في القناة المصرية، إلا بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما.
ابتعاد السينما الإسلامية والعربية عن الموضوعات الدينية، على رغم غواية هذه الموضوعات وحيويتها للعمل السينمائي، له علاقة حتما بالمحددات الشرعية التي تحرم التسجيد بالصورة (السينما - التلفزيون) أو بالتشكيل (النحت - أو الرسم) ففي الوقت الذي يبدع مايكل أنجلو تجسيدا لنبي الله موسى، وقد رفض المتشددون الإسلاميون أي تمثال حتى لو كان بعيدا عن القداسة... هذا على صعيد التشريع، أما على صعيد المثيولوجيا والطقوس الشعبية فترى تجسيدا كاملا وإعادة إحياء لمآثر وحكايات ومآسي تاريخنا الديني؛ معركة الطف تمسرح بشكل احتفالي فخم، يصل أحيانا إلى تجسيد المأساة بكل التفاصيل. فهنالك الحلبة والفريقان المتحاربان، في جانب الإمام الحسين، والجانب الآخر جنود يزيد وعلى محيط ساحة الحدث تحتشد الجماهير.
لم تقترب السينما من مأساة الحسين، إلا بعد الثورة الإسلامية في إيران، إذ استثمرت في أفلام نجحت في توصيل المعنى الحقيقي لموقف الحسين واستشهاده، طبعا بلا تجسيد لشخصيته المباركة، ولكنها بالمقابل جسدت الكثير من الشخصيات الإسلامية (صحابة الإمام وبعض أهل بيته).
أما إذا نظرت لها في الوقت الجاري فأنت تجد السينمائيين والفنانين يبدعون في تجسيد واقعة الطف بما يتماشى مع تكنولوجيا العصر الحديث. ومن الأعمال التي أعجبتني وأتمنى أن تعرض على فضائياتنا العربية فيلم رسوم متحركة يحكي بطولة أبي الفضل العباس (ع) وشجاعته في واقعة الطف، كذلك هناك فيلم سوري يحمل عنوان «موكب الإباء». وهو فيلم سوري منع بثه في القنوات العربية، ويحكي عن السبايا وعن دور الإمام الحسين والسيدة زينب والإمام السجاد عليهم السلام، ويروي الفيلم الحوادث التي جرت بعد استشهاد الحسين عليه في واقعة الطف. وهو من تمثيل الممثل الكبير سلوم حداد بدور الإمام الحسين (ع) ونخبة من الممثلين السوريين ومن إخراج باسل الخطيب.
وفي عصرنا الحديث لاحت في الأفق بوادر استلهام هذه الملحمة العظمى في تاريخنا الإسلامي سينمائيا وما يعني ذلك من التعريف بالجانب الثوري والنضالي لهذا البطل الفريد في عصره. انتعشت الآمال بإنتاج مؤسساتي بمبادرة مؤسسة ثقافية أهلية، وذلك بإنتاج أضخم الأفلام عن سيد الشهداء، معتمدا على القصص التي ألَّفها باحثون ومؤرخون موثوقون... وهذا الاهتمام غير المسبوق بملحمة كربلاء لم يأت اعتباطا بل نتيجة لعظمة مبادئها وسمو معطياتها.
العدد 1961 - الجمعة 18 يناير 2008م الموافق 09 محرم 1429هـ
الشمسان
حبي للامام الحسين