المظلوميات قد تكون بأوجاعها وآلامها المهيضة لحواس وأطراف ضحاياها سهادا لا يوشك أن ينتهي، وكآبة عمياء نافرة تطرد كل أشكال الولاءات والتضافر وتذر رماد الثقة والصدقية العامة، ولعل وقود هواجسها المشتعلة الذي تشربته أتربة أفئدة الضحايا هي الأكثر تماسكا والأسرع اشتعالا في الكون ما أن تمسسها شرارة التمرد وبارقة السخط، لذلك فهي بالتالي خير وتد ينغرز في صدر الأمن الاجتماعي والاستقرار العام وخير عائق لعملية التنمية والبناء والنهوض! والمظلوميات ذاتها قد تكون اعتناقا بدلا من أن تكون جبرا قدريا، وقد تكون ذخيرة وتراثا ومسّا روحانيّا وشاعريّا وملحميّا لا انعتاق ولا فكاك من تلبساته وتوهجاته العالقة في نسيج الخطاب والفعل الآني والمستمر إلى أمد بعيد، وفي مثل هذه الحال إما أن يكون معتنق المظلوميات رسولا للمبدأ وشهيدا للحقيقة، ومبعوثا إعجازيا للنصرة والخلاص وتمكين المستضعفين والمضطهدين وذلك فيما ندر! وفي حالات أخرى كثرت حد السأم يكون معتنقو المظلوميات مضاربين استغلاليين جشعين، وتجارا يستغلون الضحايا «حميرا» و «بغالاَ» و «كلابا» في حساب مآربهم السياسية عسى أن تسير بهم الضحايا من مجاز سياسي إلى مجاز آخر، وتحمل أمتعتهم وأغراضهم/ مبادئهم الوازنة حجما الخفيفة مضمونا ونوعا، عسى أن يدشنوا بذلك خير تجارة مربحة مع مصارف الظلمات، فتجزلهم جزلا من أرصدة سياسية شعبوية تكون عملة صعبة نادرة قابلة للصرف وحرق الأسعار وقتما تشاء ذلك بعد أن يبصموا في قلوب وعقول مخاصميهم الأقوياء بصمة واشمة لا تخلو من اجتراح وإلهام وردي! وأمثال تلك «الترسملات» من استثمار عوائد وموارد المظلوميات ماديا وأيديولوجيّا ورمزيّا ومخياليّا في ظرف مكاني وزماني مجزٍ أكثر من غيره لربما أجاد التطرق لها الباحث اليهودي الأميركي نورمان فينكلستين في كتابه الشهير «صناعة الهولوكوست» وكيف استفاد الكثير من اليهود الأميركيين من الارتزاق وتكديس ثروات ضخمة بادعاء وتمثل أنهم خير ضحايا لخير محرقة نازية (الهولوكوست) على حساب الضحايا الحقيقيين والشرعيين! وليس عن الأفق المربح والمجزي سياسيّا وأيديلوجيّا وماديّا لتجارة «المظلوميات» ببعيد ما يحدث في العراق الرابض تحت حكم الاحتلال، في العراق المفجوع بدمه المبدد خرزا بأسنة الغدر والخذلان من متاجرات ومضاربات رخيصة في عذابات الضحايا وتوسيع دائرتهم بانفلات باسم إشباع غرائز «المظلومية» وحك عناقيدها المجمرة بغرائزه المصلحية غير السوية من ارتزاق ونهب وجلد وممارسات إقطاعية بشعة منظمة في حق من لا ناقة له ولا جمل، وتلاعب في التراكيب والفسيفساء الديمغرافية للمدن والمناطق العراقية بمسمى إنصاف «المظلومية» وبفعل إشباع قحطها الخبيث والمهلك من دون نهاية! فما ذكرته «الحياة» في 6 يناير/ كانون الثاني 2008 من أنباء بخصوص «بدء السلطات في كربلاء بجرف الأراضي الزراعية أمام أعين أصحابها، تمهيدا لتحويلها إلى عقارات سكنية وتوزيعها على «المتضررين من النظام السابق»، بحسب التبرير الرسمي، أو «تمليكها للمسئولين الحزبيين والمتنفذين»، على ما يقول أصحاب المزارع الممتدة بين محافظتي النجف وكربلاء، ولو صحّت تلك الأنباء وصدقت معها رواية أصحاب المزارع، فستكون حينها أولى تباشير فجر إقطاع وارتزاق واغتصاب ومقابر جماعية جديدة تستهدف إحدى أكثر الأراضي العراقية خصوبة، كما ذكرت الصحيفة ذلك، وهدرا فاجرا لأبسط وأولى حقوق المواطنين العراقيين بمسمى «نصرة المظلوميات» رغما عن أنف القانون الذي يدعم موقف الأهالي! وما أشارت إليه الصحيفة من أن تلك الأراضي سبق وأن خصصها النظام العراقي السابق لاستزراعها، والتي حققت نتائج إيجابية وإنجازات تحسب لصالحه، وأن هذه الأراضي تخص عشائر عربية أصيلة تقطن هذه المناطق وتتهم السلطات والأحزاب السياسية بأنها تسعى إلى استقدام أفراد من إيران لمنحهم تلك العقارات التي ستشيد بعد تجريف الأراضي، وجميع ما أشير إليه إنما قد يعكس حجم الجنون والهذيان الحاصل في العراق المحتل، وكيف تسعى بعض الأحزاب السياسية إلى استغلال واستثمار «المظلوميات» بمختلف أبعادها لتحصيل وإضافة مكاسب سياسية وأيديولوجية مضاعفة تأتي في خدمة مصالح وأجندة محددة على حساب العراقيين وعلى حساب الضحايا الحقيقيين من أصحاب المظلوميات الموعودين بعطش رمل السراب، وممن سلبوا ونهبوا بمسميات نبيلة، فلم يبق لهم إلا كفاف الروح والقبض على جمر المظالم، والتحاف ظلمات الظالمين والمظلومين سوية! فأصبح تناقضا فاجعا القول إن هنالك متباكين من أيتام النظام السابق في حين أن الحاجة الحقيقية، وهي أمّ كل اختراع كما قالوا سلفا، قد عادت بخفي حنين وأثبتت أن الجميع يتباكى على النظام السابق إلا من استمرأ مواصلة خداع نفسه وترطيب خرق أحلامها الممزقة مهما كانت النوايا، فهل الجميع في العراق والمنطقة أصبح من أيتام النظام السابق؟ وبالأحرى من أيتام الأمن والاستقرار على الأقل؟ قد تكون من سخريات القدر أن تظهر وسائل الإعلام في خطابها «البروباغاندا» نظام صدام حسين رمزا للخصوبة والنماء والرخاء الغابر في حين يبرز النظام الحالي رمزا للاقتلاع والتجريف وانتهاك أبسط الحقوق على غرار اقتلاع أشجار الزيتون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن هل القدر يحتمل السخرية و «الغشمرة» بعد أن كان العراقيون يزرعون ويحصدون قمحا ومن بعدها استوردوا قمحا مخلوطا ببرادة الحديد والمركبات المسرطنة!
نظام المحاصصة الطائفية الحالي في العراق أثبت جدارته في تفريخ وتخريج أشباه صدام حسين وعدي وربما من يفوقوهم سوءا بأشواط وأشراط، فإن كان هنالك شبيه لعدي فهو موجود على رغم أن المسكين قد هتكت قوات الاحتلال عرضه في إحدى صولاته وجولاته، وهو هارب ومحصّن من حمل السلاح بأمر من وليّ أمره خيفة أن تخدش براءته الناعمة على رغم أنه يزج دوما بجماعته وميليشياته في جحيم التناحرات الطائفية والاثنية والسياسية، ولكل زمن رجاله!
وإن كان هنالك من شبيه لتجار ومضاربي المظلوميات في سياقنا المحلي فليس أدهى ممن كان ذات يوم معارضا شرسا فانقلب بعدها ألف انقلاب على دابر ذاته ومبادئه المعلنة، ولم يستحِ من نفسه لكونه رجل دين «ورعا» وهو الآن تاجر «متخرع»، فبعد كل ذلك الانقلاب الطارئ وبعد ما حظي به من حظوة رسمية عالية واصل أخونا قبضه لأثمان ومستحقات النضال واللجوء السياسي من إحدى الدول الأوروبية، وتاجر بتجارة مشبوهة مواردها مصادرها في أفخم العقار في الوقت الذي لا يجد المواطن، الذي زعم صاحبنا ذات يوم الدفاع عن مظلومياته، غرفة متواضعة في بيت أبيه أو جده ليسكنها! وهنالك في واقعنا المحلي من يطلق المزايدات تلو المزايدات السياسية تجاه رموز الاعتدال السياسي المعارض، ومثل تلك المزايدات الفارغة تعكس شحّ وفراغ ما يقدمه المزايدون على أرض الواقع من دعم مادي ومعنوي للمؤتمرات والفعاليات الرئيسية الجامعة لصفوف المعارضة! وهناك من يعادل بين حجم ما يطلقه من مزايدات سياسية فارغة على جميع من يختلف معه بعدد ما يمتلكه من قروض وأسهم وأرصدة ومستحقات في بنوك ومصارف كل المظلوميات القابلة للمساومة!
فمتى سيكف تجار المظلوميات الشاذين والطارئين من معقوفي الخطاب والمبادئ عن استغلال واسترقاق أصحاب المظلوميات الشرعيين حميرا أهليين لهم أم حمر النعم؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1959 - الأربعاء 16 يناير 2008م الموافق 07 محرم 1429هـ