خلال السنوات الماضية دخل الإسلاميون الحياة السياسية من أوسع أبوابها وتحديدا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979، وكثر الحديث عن برنامج «الإسلام السياسي»، وتصاعدت حدة الحوادث واختلطت الأفكار في خضم الحروب الإقليمية والمواجهات بين الحكومات والحركات الشعبية-الإسلامية التي بلورت المعاني المختلفة للأفكار المطروحة على الساحة.
انطلق الإسلاميون لممارسة دورهم في الحياة بحسب تفسيرهم ووجهة نظرهم النابعة من المصادر الإسلامية المعتبرة لديهم، على حين انطلقت أيضا بعض النخب العلمانية المثقفة لممارسة دورها حسبما استوعبته من مصادر ومناهل فكرية خارج الجسم الإسلامي. هذا الاختلاف في المنطلق أدى إلى الاصطدام الفكري بين الاتجاهين، التحديثي «العلماني» من جانب، والإسلامي «الأصولي» من جانب آخر. الأعوام المئة الماضي وفرت فرصا لكلا الاتجاهين وعرضتهما لامتحانات عدة دفعتهما - سياسيا - إلى اليمين أو اليسار، إلى الدكتاتورية أو الديمقراطية، الى الاقلمية أو الأممية... إلخ.
التطرق لموضوع الاتجاهات الفكرية تعترضه حساسيات مفرطة من جهات متعددة. فهناك من يحاول قولبة الأفكار الإسلامية وتطبيقاتها الاجتماعية داخل مصطلحات قد تكون دقيقة عندما نصف بها المجتمعات الغربية - مثلا - ولكنها تفقد تلك الدقة عندما نحاول استخدامها لتحليل الحركات والمجتمعات والأفكار الإسلامية. من جانب آخر، هناك من يتحسس من ذكر أي مصطلح لم يرد في آية قرآنية أو حديث نبوي، ويرفض الأسس والأساليب والمصطلحات التي أنتجها الفكر الفلسفي الغربي. بين هذا وذاك، يضيع الموضوع عندما تضاف إليه الحساسيات الشخصية أو المذهبية، ويتحول بذلك الحوار الفكري إلى جدل عقيم.
يشير السيدمحمد باقر الصدر (ت 1980) في كتابه «مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن» إلى أن عملية التغيير الاجتماعي - السياسي لها جانبان: جانب رباني يختص بالمحتوى والمضمون (الوحي)، وجانب إنساني/ بشري؛ لأن التغيير عملية اجتماعية تتجسد في أناس. الجانب الرسالي، جانب الوحي، يرتبط بالله سبحانه وتعالى، أما الجانب الإنساني فإنه يخضع لسنن التاريخ؛ لأنه تعبير عن جَهْد بشري في مواجهة جهود بشرية أخرى، بحسب تعبير السيدالصدر.
إذا استطعنا أن نفهم الاتجاهات الإسلامية وطريقة تعاملها مع التحديات المطروحة أمامها بأنها عملية إنسانية/ بشرية فإن بالإمكان إخضاع تلك الاتجاهات للتمحيص العلمي من دون الإخلال بالجانب الرباني (الوحي). على هذا الأساس، إن الاتجاهات الإسلامية الفكرية والأساليب التي اتبعت للتعبير عن نهج تلك الاتجاهات جميعها هي الجانب الإنساني القابل للتحليل، والموافقة له أو الاختلاف معه. الاختلاف مع هذا الجانب الإنساني لا يمثل اختلافا مع الوحي، الجانب الرباني للرسالة الإسلامية. وهذه النقطة مهمة جدا. وترد مباشرة على الاتجاهات التكفيرية والتفسيقية التي ترفض أية وجهة نظر مخالفة لأيٍّ من التفاسير المطروحة. هذه الظاهرة الخطيرة هي التي سمحت لكثير من الأشخاص والأحزاب بمحاولة إلغاء الطرف الآخر من خلال تفسيقه أو تكفيره أو اتهامه بالعمالة الفكرية أو السياسية أو المصلحية، وهي التي وفرت للبعض أن يعتبر فكرا معينا صادرا عن جهة معينة يمثل الله وكلمة الله، بدلا من تمثيله تفسيرا إنسانيا وفهما بشريا (ضمن تفاسير ومفاهيم مختلفة) للوحي الإلهي (الجانب الرباني من العملية التغييرية).
الاتجاهات الفكرية على الساحة الاسلامية يمكن تقسيمها من وجهة النظر المتعلقة بدور الاسلاميين في الحياة العامة. وهذا التقسيم يتخطى التقسيم المذهبي او الحزبي او الفردي، ويبرز صورة تساعد على فهم الاطروحات السياسية للاسلاميين. ويمكن تقسيم تلك الاطروحات الى ثلاثة اتجاهات اساسية: اتجاه تطبيق الشريعة، اتجاه الحاكمية/ الوَلاية، والاتجاه التعددي. هذا التقسيم ليس جديا، فقد نرى البعض يؤمن بأطروحات تتداخل بين الاتجاهات الثلاثة ولكنهم في العادة يغلّبون اتجاها معينا اثناء تحركهم.
اتجاه تطبيق الشريعة الإسلامية
يشير وليد نويهض (1994) في كتابه «النخبة ضد الأهل» إلى أبرز نتائج حملة نابليون على مصر في العام 1798 - التي أسفرت عن احتلال فرنسا مصرَ - وهي إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية واستقدام خبراء أجانب في القانون الفرنسي لصوغ قانون مدني يحل مكان الشريعة الإسلامية. كان العالم الإسلامي غارقا في الدكتاتورية السياسية والتخلف الناتج من ذلك، ولكن كانت هناك القاعدة الاجتماعية القائمة ضمن إطار الشريعة الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم والسنة الشريفة.
تطبيقات الشريعة كانت تخضع لظروف الحكم. ولهذا انحصرت في مجالات محدودة وانحسر التشريع الإسلامي عن مواكبة التطورات الكبيرة التي كانت تواجه العالم الإسلامي.
غير أن اتجاه المستعمر لإلغاء الشريعة الإسلامية مثّل تحديا مباشرا للمسلمين وهو إلغاء مصدر مهم للمسلمين وحضارتهم. المستعمر والنخبة التي نشأت برعايته استهدفت روافد الثقافة الإسلامية ربما «من أجل السيطرة على البلاد الإسلامية». وجهة النظر هذه حركت المسلمين وشكلت عقلياتهم وهم يكافحون الاستعمار. ومع سقوط الدولة العثمانية وإقامة العلمانية المتطرفة في تركيا ومحاولة فرض تلك العلمانية على البلاد الإسلامية بالقوة في العشرينيات من هذا القرن الماضي، نشأت الدعوة إلى العودة إلى الدين الإسلامي من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية على مجالات الحياة بأسلوب تدريجي مهما ومتى سنحت الفرصة لذلك. وعودة تطبيق الشريعة الإسلامية يستلزم وجود القاعدة الاجتماعية القابلة بذلك. ولذلك استلزم الدعوة لبناء تلك القاعدة بالتدريج. هذا هو أسلوب الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا، وعدد غير قليل من الإصلاحيين الآخرين.
العاملون من أجل تطبيق الشريعة يؤمنون بأن الإسلام «عقيدة وشريعة»، وأن الفقه يوضح أحكام الإسلام المتعلقة بمعاملات الناس وأحوالهم. والفقه الإسلامي يحتوي على ثروة هائلة من الحلول الناجعة لصلاح البشر. الاجتهاد في الفقه الإسلامي يوفر أجوبة لمتطلبات العصر ومستجدات الحياة الإنسانية. وانطلاقا من هذا الفهم فإن الإسلاميين يطرحون ردودهم عن الشبهات المتعلقة بقضايا المرأة، والحدود الشرعية، والأقليات غير الإسلامية التي تعيش مع المسلمين.
ونلاحظ أن هذه الفكرة - مع قليل من التحوير - هي ما طُرِحت في الأوساط الإسلامية بمختلف مذاهبها الفقهية. والإشارة هنا للمذهبية الفقهية هي للتوضيح أن حزب الدعوة الإسلامية (الشيعي) اتبع الاتجاه نفسه الذي اتخذه الإخوان المسلمين (السني) بقيادة حسن البنا. ولذلك نلاحظ أن السيدمحمد باقر الصدر (أحد مؤسسي حزب الدعوة) طرح حلول الشريعة الإسلامية للتحديات المطروحة في الخمسينيات والستينيات (الاقتصاد الإسلامي والبنك الإسلامي... إلخ). والسيدالصدر لم يتوانَ عندما طلب منه التنظير لإنشاء «بنك لا ربوي» في الكويت، بل سارع لكتابة كتابه «البنك اللاربوي في الإسلام»؛ لإثبات أن الشريعة الإسلامية قادرة على مواكبة تطور العصر. هذا الاتجاه يركز على استخدام اسلوب الاقناع الفكري والعمل التدريجي للصعود بالمجتمع الى مرحلة يتقبل فيها تطبيق حكم الاسلام. كما ان هذا الاتجاه قد يقبل بتطبق الشريعة الاسلامية في جانب من جوانب الحياة لإثبات قدرة الاسلام على التصدي لتحديات العصر.
إذا، الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية صاحبتها حركة فكرية سعت لإثبات أن الفقه الإسلامي قادر على مواكبة تعقيدات العصر وتقديم الحلول المنافسة والمتفوقة في جوانب عدة على ما يطرحه القانون المدني ـ الوضعي. غير ان المطارحات الفكرية تركزت على مواقع معينة وحساسة أكثر من غيرها، مثل قانون العقوبات. واستخدم هذا الموضوع من قبل بعض الحاكمين لإعلان «أسلمة» أنظمتهم وتفادي الضغط المتزايد من الحركة الإسلامية. غير أن حصر تطبيق الشريعة في موضوعات بذاتها وإغفال المجالات الواسعة وشروط وظروف تطبيق ما ورد في القرآن والسنة أعطى صورة مشوهة لمفهوم تطبيق الشريعة لدى الكثيرين.
الناشطون الإسلاميون اتجهوا للاستفادة من الأساليب الحديثة أثناء دعوتهم لتطبيق الشريعة الإسلامية. وكان الأسلوب الحزبي ـ التنظيمي قد أثبت فاعليته في عدد من البلدان غير الإسلامية. ووجد الإسلاميون هذا الأسلوب فعالا لإعادة المجتمع إلى الإسلام وأحكامه. ولهذا اتبع الكثير من الإسلاميين أسلوب التنظيم الحزبي الهرمي، واعتقدوا بوجوبه لأنه «مقدمة للواجب».
الأحزاب الإسلامية التي سعت لبناء القاعدة الاجتماعية آمنت بالأسلوب الحزبي المقارب - من الناحية التنظيمية - لما اتبعته الكثير من الحركات الأوروبية - ولاسيما الاشتراكية - للوصول إلى الحكم. الأسلوب الحزبي واجه تعقيدات كثيرة وخصوصا الحساسية المفرطة تجاهها داخل المجتمع الإسلامي، إضافة إلى الحساسية الناتجة من تضارب السلطات الحزبية التنظيمية مع السلطات الدينية التقليدية.
يدافع السيدمحمد حسين فضل الله عن اسلوب التنظيم الحزبي قائلا: «ان حكاية ارتباط وسائل التنظيم المعاصرة بالذهنية الغربية، قد يكون معقولا من بعض الجوانب في توزيع المسؤوليات وإطاعة الاوامر فيما لا تكون الامور جارية على الموازين الشرعية، ولكن ذلك لا يعني التنكر للموضوع من حيث الاساس. بل ان كل ما هنالك ان نعمل على تركيزه على الاسس الشرعية الاسلامية، ليتم لنا من خلال ذلك التنظيم الاسلامي الجاري وفق الموازين الشرعية، فنحصل على ايجابيات الفكرة ونتخلى عن السلبيات» (انظر «القيادة الإسلامية في خط المرجعية»، مجلة «طريق الحق» - فبراير/ شباط 1982).
اتجاه الحاكمية/ الولاية
الصدمة التي واجهت الكثير من الإسلاميين هي عدم إمكان عودة الإسلام من خلال تطبيق الشريعة بصورة تدريجية منظمة - باستخدام التنظيم الحزبي - لبناء قاعدة جماهيرية تؤمن بالإسلام وتطالب به، مع وجود التحديات الكبيرة المتمثلة في النفوذ العالمي/ الأجنبي والدكتاتورية المحلية. ولهذا تعززت فكرة الحاكمية، أي تحكيم الإسلام في الحياة عبر تسلم السلطة وتوجيه المجتمع من أعلى القمة. الحاكمية تستلزم القطع بعدم إمكان التعايش في ظل أجواء غير إسلامية تحارب الإسلام.
فحتى لو آمن جميع الشعب بإمكان الحكم الإسلامي وقدرته فإن دبابة واحدة كافية لقمعه. ولهذا فإن ضرورة الحكم الإسلامي وتنفيذ حاكمية الله وولايته على خلقه تعني ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية. ولعل أبرز رواد هذا الاتجاه الأساسيين هم أبوالأعلى المودودي، وسيدقطب، والإمام الخميني. مرة أخرى، إن المذهبية الفقهية إنما أعطت لغة أخرى للمفهوم نفسه. فـ «الولاية» لدى الشيعة قريبة جدا من «الحاكمية» المستخدمة لدى السنة، والمفهوم يتجه باتجاه واحد يقصد منه إقامة المجتمع الإسلامي من خلال استبدال الجاهلية - أو حكم الطاغوت - بحاكمية الله (الولاية).
اتجاه الحاكمية يركز بدرجة أكبر على الاسلوب الثوري/ الانقلابي الحاسم متى ما سنحت الفرصة لذلك للوقوف امام الجاهلية أو حكم الطاغوت ولإفساح المجال لتطبيق الشريعة الاسلامية، حسبما يوضح ذلك الحديث القائل: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». اتجاه الحاكمية/ الولاية واجه ويواجه تحديات أكبر من اتجاه تطبيق الشريعة. فالشريعة الإسلامية المكتوبة في الكتب الفقهية لا تحتوي على حلول لكل شيء مطروح في العصر الحديث. ولهذا يأتي الدور المركزي للفقيه أو الخليفة أو الأمير؛ لحسم الكثير من الأمور التي لا يوجد لها نص أو حديث. ويلاحظ أيضا اعتماد اتجاه الحاكمية/ الولاية، على مفهوم «المصلحة الإسلامية العليا»، بمعنى أن القرارات التي يتم اتخاذها من دون وجود نص لها تعتمد على مفهوم حماية المصلحة الإسلامية حسبما يحدده أهل الخبرة والمتصدون للموضوع المطروح للمعالجة.
من الناحية التنظيمية، لم يختلف اتجاه الولاية/ الحاكمية عن اتجاه تطبيق الشريعة في ضرورة الاستفادة من الأساليب الحديثة لإدارة شئون الحياة. بل إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أقامت نظاما دستوريا اعتمد جميع الأساليب والمؤسسات الحديثة لإدارة شئون الدولة، مثل البرلمان والانتخابات الرئاسية وغيرهما. غير أن وجهة النظر تجاه العمل التنظيمي الحزبي اختلفت بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. فظهرت حركة جماهيرية تعارض العمل الحزبي النخبوي، وعليه إن كثيرا من الإسلاميين انتقلوا من مفهوم العمل التنظيمي الحزبي الصارم إلى مفهوم العمل العام المنطلق من المساجد والقائم على المؤسسات التقليدية فقط. هذه الحالة الجماهيرية قد تكون أكثر فاعلية في حالة الهيجان الثوري الشعبي، أما في الحالات الاعتيادية فإنها تصبح عبئا؛ لأن العمل السياسي بحاجة إلى التنظيم الحديث.
من الصحيح القول إن اتجاه الولاية/ الحاكمية وفر أسلوبا حاسما عجزت عنه التنظيمات السياسية الهرمية وتمكن بسبب قدرة الحسم على اجتياز كثير من الصعوبات. وعامل الحسم هذا هو محور الحديث عندما يتطرق منظّرو اتجاه الحاكمية إلى «الأحكام الولائية» (مصطلح فقهي شيعي) أو «الأحكام السلطانية» (مصطلح فقهي سني). فهذه الأحكام هي قرارات سياسية وإجرائية لدفع المسيرة بأسلوب أكثر فعالية من أساليب العمل الحزبي الهرمي. ولكن هذا العامل (عامل الحسم) ليس بالضرورة خاضعا لمعطيات الفكر لوحدها، وإنما يساعد على ذلك طبيعة الظروف والأشخاص المتصدين للقيادة.
اتجاه الولاية/ الحاكمية ينظر إلى الإسلام بكونه دينا ودولة، وإن العبادة هي عين السياسة والسياسة هي عين العبادة، ولا فصل بين إقامة الصلاة وإقامة نظام حكم. بل إن الإمام الخميني قال إن «الحفاظ على النظام الإسلامي من أكبر الواجبات» وأهم من الواجبات العبادية الأخرى. اتجاه الحاكمية/ الولاية تمكن من تجربة تصوراته الفقهية والفكرية ولديه فرصة الآن لمراجعة كثير من التصورات والمباني الفكرية. فلو قارنا ما يجري في الجمهورية الاسلامية الايرانية نجد ان النظام السياسي القائم على نظرية «ولاية الفقيه» تبنى الكثير من النظم الادارية الديمقراطية لتسيير شئون الحكم الى الدرجة التي ينص فيها الدستور الايراني بعدم امكان حل البرلمان تحت أي ظرف من الظروف. ولكن في الوقت ذاته تسيطر المؤسسات غير المنتخبة على البرلمان. ولذلك فإن الحوارات والحديث ينطلق إلى مدى اشتمال هذا الطرح مفاهيم التعددية داخل المجتمع وإمكان الأطراف الأخرى التي قد لا تؤمن بالمنطلقات الفكرية للاتجاه الحاكم بالمشاركة في الحياة السياسية تحت هذا النوع من الحكم.
الاتجاه التعددي
الاتجاه الثالث في الوسط الإسلامي حاول ويحاول اتخاذ الإسلام قاعدة فكرية للدخول في الساحة السياسية والقبول، بل تبني الكثير من الأطروحات المعاصرة عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان والتعددية السياسية (بين الإسلاميين أنفسهم، وبين الإسلاميين وغير الإسلاميين)، والدستورية، وغيرها من الأطروحات المتداخلة مع مفاهيم المجتمع المدني والحريات السياسية العامة طالما انها لا تتعارض مع اساسيات الدين. ولعل هذا الاتجاه يواجه تحديات أكبر من الاتجاهين الآخرين؛ لأن أصحاب هذا الاتجاه لا يستطيعون الحصول على دعم كبير من التراث الموروث.
فالحركات الدستورية في إيران وتركيا ومصر في مطلع القرن العشرين شهدت ظهور قيادات إسلامية ومراجعَ فقهيةٍ تتبنى أطروحات التمثيل النيابي والتقييد الدستوري لنظام الحكم والإيمان بالحقوق الأساسية للأفراد والمجتمعات، ولكنها أيضا ووجهت من قبل اسلاميين آخرين تحدوا - من وجهة نظر اسلامية - هذا الطرح.
إذا كانت الاسس التي اعتمد عليها الاتجاهان الآخران «نقلية» -بالاساس - تعتمد على الحديث والسنة، فإن الاسس التي يعتمد عليها هذا الاتجاه هي «عقلية» على الأغلب، تحاول «اعادة قراءة النص» بصورة غير تقليدية. والتركيز الأساس، كما هو الحال مع الإمام محمد عبده (مصر) والشيخ محمد حسين النائيني (إيران) في مطلع القرن (الماضي)، هو محاولة الالتزام بالأصول الدينية من جانب، ومواكبة تطورات العصر من جانب آخر. الملاحظة المهمة الأخرى هي إن محاولة استخدام العقل تخضع لضوابطَ وأصول معينة يناقشها الفقهاء باستمرار.
الاتجاه التعددي يركز على «عدم إلغاء» الطرف الآخر سواء كان ذلك الطرف إسلاميا (من الناحية السياسية) أو غير إسلامي (من الناحية السياسية والدينية). وهذا القول ربما لا ينطبق على جميع القائلين بهذه الأفكار، ولكن الاتجاه العام يدفعهم إلى هذه النتيجة. هذا الاتجاه برز على السطح في مطلع القرن العشرين في تركيا ومصر وإيران، ولكنه ضمر بعد ذلك، ليعود مرة أخرى في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين الماضي. وهناك كثير من الكتّاب والمثقفين والمفكرين الاسلاميين المدافعين عن هذا الاتجاه من زوايا ووجهات نظر متعددة.
الداعون لهذا المنطق يعيدون قراءة النص الديني ويحاولون التفريق بين الأصول الدينية الثابتة والكم الكبير من الأحكام التشريعية التي تحركت مع تطور الحياة وتعقدها وتراكم الخبرات الإنسانية بشأنها. وإذا كان الاتجاهان الآخران يركزان على موضوع الواجبات الدينية على الإنسان، فهذا الاتجاه يركز على موضوع الحقوق الأساسية المترتبة للإنسان بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى. وهذا الطرح - بطبيعة الحال - يقترب من الأطروحات السياسية المعاصرة المنادية بحقوق الإنسان واعتبارها نقطة مركزية ينبغي أن تتمحور حولها النظم التشريعات وهو أيضا ما يجعله هدفا سهلا لاتهامه بالتأثر بالأفكار غير الإسلامية.
التعايش والحوار
التعايش والتسامح بين الجماعات لهما جذورهما في الإسلام عندما نسترجع كيف عاش اليهود والنصارى (وغيرهم عندما توسعت الرقعة الإسلامية) تحت حكم الاسلام، ولكن مع الأسف إن ذلك التعايش يتم التغاضي عنه. ولا ينظر إلا إلى الجانب التقنيني الخاضع لمعطيات ذلك العصر (مثل الجزية وغيرها). الأوروبيون من جانب آخر لم يعرفوا أي معنى للتعايش والتسامح في تاريخهم إلا بعد انتهاء القرون الوسطى (بعد 1500) وبعد الحروب الدينية الأوروبية في القرن السابع عشر. أما ما قبل ذلك ولقرابة ألف عام فقد كانوا يحاربون التسامح والتنوع والتعدد. خرج الأوروبيون من عصورهم المظلمة بعدما وصلت بعض الأفكار من الشرق الإسلامي (كأفكار ابن رشد وغيرها) وبدأوا ينظرون إلى حياتهم بمنظار عقلاني يختلف عما كانت تفرضه الكنيسة الكاثوليكية. الانفتاح الأوروبي على العقلانية أوصلهم إلى التعايش فيما بينهم وبين الآخرين، ومكّنهم من الصعود بأفكارهم ومدنيتهم إلى مستويات أعلى من السابق. وبينما كانت أوروبا تخرج من عصور ظلماتها إلى نهضتها وتنويرها، كنا نحن المسلمين نتراجع من عصور عقلانيتنا وريادتنا إلى عصور متخلفة كرّسها أسلوب الحكم الفاسد الذي سيطر على البلاد الإسلامية.
إن هذا كله يستدعينا أن نراجع الأفكار التي قد تتسرب الى أي اتجاه من الاتجاهات الاسلامية السياسية التي لا تقبل بالتعايش السلمي بين مختلف الأطروحات. فالإسلامي إذا لم يستطع أن يتعايش مع الإسلامي الآخر، فإنه يغلق الباب أيضا على إمكان التعايش فيما بين الإسلامي وغير الإسلامي. والمقصود بغير الإسلامي هنا، سواء كان مسلما ولكن لا يعتنق فكرا سياسيا إسلاميا أو غير مسلم بالأساس. هذه الدعوة لم تعد تنطلق من حناجر الأشخاص الذين لا يرتبطون بالحركة الإسلامية، وإنما من أولئك الذين نشأوا وترعرعوا وخدموا مجتمعاتهم، وقلوبهم ومشاعرهم وأفكارهم وأعمالهم لم تنفك عن الإسلام.
الدعوة إلى التعايش السلمي - من خلال حكم القانون الدستوري - والتنوع والتعدد في الطرح هي العناوين الرئيسية الداخلة في أطروحة «المجتمع المدني»، التي لم تعد محتكرة من قبل فكر معين، وخصوصا بعدما طرحها الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي في ديسمبر/ كانون الأول 1997 أمام رؤساء الدول الإسلامية وملوكها وفتح بذلك آفاق الحوار بين الحضارات والمجتمعات، ولاسيما داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في مطلع القرن الواحد والعشرين هو ما مدى العمق والرسوخ والجدية المتوافرة في الأوساط الإسلامية وغير الاسلامية لإنعاش حالة الحوار بصورة سليمة تستفيد من جميع الخبرات؟ وهل إن ظهور حالة الانفتاح أخيرا ما هي إلا نشوة تعود إلى المسلمين كل مئة عام ثم تختفي؟
* نقاشات في ورش عمل نظمت في العام 1998
العدد 1959 - الأربعاء 16 يناير 2008م الموافق 07 محرم 1429هـ