العدد 1958 - الثلثاء 15 يناير 2008م الموافق 06 محرم 1429هـ

أم البنين

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كانت زوجته الأولى وحبَّه الأكبر، وعندما لحقت بأبيها، جلس على قبرها يندبها ندبا مرا: «لقد قلّ على فراقك صبري»، فقد كان يشم فيها رائحة حبيبه محمد (ص).

وبعد فترة من الوحدة، طلب الرجل زوجة كما تقضي سنُّة الحياة، فانتدب أخاه عقيلا ليخطب له امرأة لمعرفته بالأنساب، واشترط أن تكون «ولدتها الفحولة من العرب»، وهكذا وقع الاختيار على فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية، من بيتٍ معروفٍ بالشجاعة والبأس والإقدام.

عندما زفَّها قومها إلى بيت زوجها كعادتهم في تلك الأزمنة، طلبت من الرجال أن يتنحوا جانبا، حتى طرقت الباب، فخرج غلامان صغيران يتيمان، فاستأذنتهما أن تكون لهما جارية لا زوجة أب تحل مكان أمِّهما، فأي شرفٍ أن تخدم سبطي الرسول الكريم؟

بعد أيام، ألفاها الزوج باكية في إحدى زوايا المنزل، سألها عن سر بكاها، فقالت: لا تنادني فاطمة، فكلما سمع الغلامان الاسم تلوَّعا على أمهما... فأخذ عليٌ (ع) يكنِّيها بـ «أم البنين»، التي شاء القدر أن تنجب أربعة بنين، سيخبئ لهم الدهر يوما عظيما مهولا في كربلاء.

أكبر البنين كان العباس بن علي، الذي تقول الروايات المتداولة إنه كان يحبُّ الحسين حبا جما، تربّى على قيم الفروسية والشهامة والوفاء، ويسجّل أول حضور له مع خروج الحسين بأسرته من مكة المكرمة، خائفا مطارَدا من بلد أجداده، بعد أن بلغه أن الحاكم في دمشق بعث بفرقة اغتيالات، مزوّدة بتعليمات مشددة بقتله ولو كان متعلقا بأستار الكعبة وفي الشهر الحرام.

مع خروج القافلة، تولى العباس حراسة هوادج النساء، وفي مقدمتها هودج أخته زينب، التي تركت زوجها وآثرت اصطحاب إخوتها في طلب الإصلاح لأمة محمد (ص)، بعد أن آلت الأمور إلى حاكمٍ طائش، يشرب الخمر ويقتل النفس المحرَّمة، ويلاعب الكلاب والقرود ويستبيح الموبقات. وفي إحدى سورات سُكره أنشد مستهترا:

شغلتني نغمة العيدان عن صوت الأذان

وتعوَّضت من الحور عجوزا في الدنان!

بل إن أباه أرسله مع الجيش في غزوة ضد الروم يوما فتثاقل، وترك جيش المسلمين للحمَّى والجُدري، وهرب مع زوجته أم كلثوم إلى أحد الأديرة وأنشأ ساخرا:

فما أبالي بما لاقت جنودُهُمُ

بـ «الغَيْدَقونَة» من حمَّى ومن مُومِ

كانت نهضة لتصحيح الانحراف في مسار الأمة التاريخي، ولم يكن نتاج غضب وانفعال. وهكذا التقى الجمعان، في ملحمةٍ كان أحد أبطالها العباس، الذي نال عددا من الأوسمة: ساقي عطاشى كربلاء، وحامل اللواء، والعميد، وحامي الضعينة، و «قمر بني هاشم» لجماله.

تاريخيا، أمامنا روايتان، روايةٌ تقول إن أم البنين ماتت قبل كربلاء، وروايةٌ أخرى تقول إنها ظلت في المدينة حتى عادت أسرة النبي نسوة بلا رجال، بعد رحلةٍ من السبي الطويل، ولكنها لم تسأل عن العباس وأشقائه، وإنما سألت فقط عن مصير الحسين.

هذه المرأة اليوم، تحتل في الوجدان الإسلامي الشيعي منزلة خاصة جدا، تُقدَّم في حبّها النذور قربة لله تعالى، وعندما تسمع النساء يتحدّثن عنها، تخالهن يتحدّثن عن صديقةٍ أو جارةٍ يعشقنها، وليس عن امرأة عاشت قبل خمسة عشر قرنا من الزمان.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1958 - الثلثاء 15 يناير 2008م الموافق 06 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً