يرجح أن تلقى سياسة التحريض اليومية التي ينتهجها الرئيس الأميركي لتأليب دول الخليج العربية على إيران المزيد من الفشل. فالدول العربية سارعت قبل بدء جورج بوش جولته في «الشرق الأوسط» إلى إرسال إشارات واضحة في رموزها السياسية حين أبدت استعدادها للانفتاح على طهران والتفاهم معها على الكثير من الملفات الخلافية. مصر أرسلت وفدا رفيع المستوى إلى طهران واستقبلت بدورها كبير مفاوضي الملف النووي الإيراني سابقا والممثل الشخصي لمرشد الثورة الإسلامية علي لاريجاني في القاهرة وتمّ التداول في النقاط الساخنة التي عطّلت قنوات التواصل الدبلوماسي. ودول الخليج العربية دعت الرئيس الإيراني إلى المشاركة في افتتاح قمة مجلس التعاون في الدوحة وإلقاء كلمة في المناسبة. كذلك وجّه خادم الحرمين دعوة رسمية للرئيس محمود أحمدي نجاد لتأدية مناسك الحج. وأيضا أعلنت القاهرة عن احتمال عقد صفقة لشراء القمح الإيراني إضافة إلى البحث في إمكان فتح مصنع للسيارات في مصر.
كل هذه الإشارات السياسية التي صدرت من مصر والسعودية والبحرين والكويت والإمارات حصلت قبل بدء بوش جولته في المنطقة. والإشارات في مجموعها جاءت للتأكيد على أن الدول العربية ليست جاهزة للاستماع إلى خطب رنانة طنانة في وقت تتسرب معلومات تشير إلى وجود سياسة أخرى يتم ترتيب أوراقها السرية من تحت الطاولة. وبناء على هذه المعطيات اتخذت مصر ودول الخليج العربية خطوات سياسية استباقية قبل وصول الرئيس الأميركي إلى المنطقة.
بوش سيعود قريبا إلى واشنطن ويرجّح أنه لن يأخذ معه سوى توقيع عقود تجارية وصفقات أسلحة أعلن عنها سابقا. بينما الطموحات السياسية فإنها لن تلقى التجاوب المطلوب أميركيّا لاستكمال ما تبقى من استراتيجية التقويض والزعزعة والخلخلة ونشر الفوضى وعدم الاستقرار.
هذا على الأقل ما يمكن ملاحظته من متابعة المسار العام للجولة. فاللقاءات فشلت في إقناع الدول العربية بأن «إسرائيل» محايدة وبريئة وعادلة ومعتدلة. كذلك لم تتوصل إلى إقناع العواصم العربية بضرورة تأسيس حلف من المعتدلين ضد إيران بذريعة مواجهة «الإرهاب» و«التطرف». كذلك بات من الواضح أن الدول العربية ليست على قناعة بأن تل أبيب يمكن التفاهم معها بينما تشكل طهران ذاك الخطر الداهم على المصالح العربية.
فشل بوش في جولته السياسية لا يعني أن الإدارة الأميركية اقتنعت بالواقع واستسلمت له. فالاحتمالات في هذا الإطار تبدو مفتوحة على خيارات أخرى وربما تكون موازية بهدف كسر الممانعة العربية التي ظهرت على أكثر من صعيد.
يرجح أن الإدارة الأميركية لن تسكت وستحاول بكل جهدها تمرير سياسة انفضحت خدعتها وانغلقت أمامها معظم الأبواب. وهذا ما يمكن مراقبته من خلال تصرفات إدارة واشنطن في الأشهر المتبقية من عهد «تيار المحافظين الجدد». فالرئيس بوش وعد حكومة تل أبيب بزيارة المنطقة ثانية في مايو/ أيار بمناسبة ذكرى نكبة فلسطين التي تتصادف مع إعلان قيام دولة «إسرائيل». وعودة بوش في جولة جديدة بعد أربعة أشهر تطرح أسئلة من نوع «ما هي التوقعات أو المستجدات التي يراهن عليها لتبرير عودته إلى المنطقة؟».
الاحتمالات والبدائل
هناك احتمالات كثيرة يمكن توقعها على مختلف الملفات الساخنة في الدولة العبرية والسلطة الفلسطينية ولبنان والعراق، وهي نقاط موضوعة على أجندة الحل أو التفجير من الآن إلى عودته.
على مستوى حكومة إيهود أولمرت هناك احتمال أن يتعرض التحالف الوزاري بين الكتل الحزبية إلى الاهتزاز في حال صدور تقرير لجنة «فينوغراد» في نهاية الشهر الجاري بشأن إخفاقات العدوان على لبنان في صيف العام 2006. فالتقرير إذا حمّل أولمرت مسئولية الفشل السياسي فمعنى ذلك أن الحكومة ستسقط أو على الأقل ستجمّد أعمالها بانتظار ترتيب التحالفات التي ستفضي إلى تقريب موعد الانتخابات الإسرائيلية في نهاية السنة الجارية.
الانتخابات النيابية ستؤدي إلى تجميد المفاوضات مع سلطة محمود عباس وتأخير كل الوعود إلى موعد آخر سيعاد ترتيبه مع الحكومة المقبلة التي ستتشكل في ضوء الموازين الحزبية في «الكنيست». ومن الآن ترجّح الاستطلاعات احتمال فوز حزب «الليكود» بالغالبية وهذا يعني قطع دابر الاتصال مع السلطة الفلسطينية وتمزيق كل الأوراق التي اعتمدت نظريّا في مفاوضات «مؤتمر أنابوليس».
على المستوى الفلسطيني يرجّح أن تسير اللقاءات مع حكومة أولمرت من أفق مسدود إلى آخر حتى تصل إلى حائط «الليكود» وما يعنيه الأمر من إقفال لكل الأبواب الموصدة أصلا. حتى لو عاد أولمرت إلى الحكم في نهاية العام الجاري فإن التوقعات ترجّح انغلاق ملفات التفاوض باعتبار أن بوش نفسه يكون في الأسبوع الأخير من عهده ولن يكون في وضع نفسي يسمح له بالكلام عن «دولتين» في فلسطين.
على المستوى اللبناني ستكون الأمور في حال أسوأ من الآن إلا إذا توافقت الأطراف على انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وطنية والاتفاق على تعديل قانون الانتخابات النيابية. «إلا إذا» هذه تبدو الآن في حال صعبة ويرجّح أن تنفجر سياسيّا (أهليّا) إذا واصل التصعيد يأخذ مجراه العنفي ويغلق أبواب الحل الدستوري للأزمة المتنوعة الوجوه والمفتوحة على ملفات إقليمية ممتدة من غزة إلى البصرة. ولبنان الذي يدفع ثمن كل الصفقات يرجّح أن يكون موضع تفاوض في حال قررت واشنطن تقديم «رشوة» سياسية مقابل تناغمات «فنية» و «تقنية» في أمكنة أخرى.
على المستوى العراقي يرجّح أن تركز الإدارة جهدها على تفكيك هذا الملف الذي يشكل الآن أولوية في سياسة بوش الدولية والإقليمية. فأوراق العراق بدأت تتوضّح ويبدو أن واشنطن تراهن الآن على إعطاء أهمية للاستقرار الأمني حتى لو تطلب الأمر التفريط بوحدة بلاد الرافدين وتوزيع الدولة على وحدات طائفية ومذهبية تلبي احتياجات نفوذ داخلية مفتوحة على مجالات إقليمية. وهذا الأمر لا تستطيع إدارة بوش التوصل إليه من دون تفاهمات مع دول الجوار أو من دون اتخاذ خطوات ميدانية تعيد تنظيم قوات الاحتلال من خلال خطط أمنية تقوم بإعادة نشر (موضعة) الجيش الأميركي في قواعد عسكرية ثابتة (أو متحركة) لمدد تتراوح بين سنة وعشر سنوات.
الرئيس بوش سيعود، كما وعد أولمرت، إلى المنطقة بعد أربعة أشهر للاطلاع مجددا على المسار السياسي الذي حدد مواصفاته في جولته «الشرق الأوسطية». ولكن التوقعات ترجّح أن تكون النتائج غير مثمرة كما كانت في جولته الحالية. فالملف الفلسطيني سيشهد عرقلة بذريعة الانتخابات الإسرائيلية ويرجّح أن يغلق في حال فاز «الليكود». والملف اللبناني سينزلق إلى مزيد من التوتر الأهلي في حال استمر التجاذب الإقليمي والدولي يضغط على منع التوصّل إلى حل وفق المعادلة العربية التي توافق عليها وزراء الخارجية في القاهرة. أما الملف العراقي، وهو الأهم بالنسبة إلى حسابات بوش الداخلية، فإنه سيشهد المزيد من الترتيبات الأمنية من دون التوصل إلى صيغة نهائية للانسحاب ما يعني استكمال سياسة التقطيع وتوزيع النفوذ على حصص طائفية ومذهبية داخلية مفتوحة على الأقاليم المجاورة.
بوش فشل سياسيا في جولته الأولى، ولكن خيارات الإدارة لاتزال مفتوحة على بدائل. والبدائل الإقليمية واردة من الآن وتحتاج إلى وقت لوضع اللمسات على صيغتها النهائية. وهذا الأمر يرجّح أن تتوضح معالمه خلال الأشهر الأربعة المقبلة حين يأتي موعد جولة بوش الثانية في المنطقة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1958 - الثلثاء 15 يناير 2008م الموافق 06 محرم 1429هـ