تبدو خطابات الرئيس الأميركي «النارية» غير موفقة وتحتاج إلى الكثير من البراهين الملموسة للاقتناع بها. فالنخب السياسية في دول الخليج العربية غير مقتنعة بها وخصوصا أنها تترافق مع معلومات تتحدث عن بلوغ المفاوضات الأميركية - الإيرانية بشأن برنامج «التخصيب النووي» أو «الملف العراقي» مرحلة متقدمة من التفاهم «الفني» و «التقني».
هذا التضارب بين تصريحات عنيفة ومعلومات تشير إلى وجود تناغمات يثير الشك ويعطي اشارات ضوئية معاكسة للكلام «الناري». وبسبب هذا التضارب يرجح أن يفشل بوش في استدراج دول منطقة الخليج إلى مكان يريد منه الابتزاز المالي من طريق التهويل والتخويف.
خطابات الرئيس الأميركي عن مخاطرَ أمنيةٍ وتهديداتٍ محتملةٍ من نمو النفوذ الإيراني في المجال الإقليمي لم تعد تنطلي على شرائحَ واسعةٍ من الكتّاب والصحافيين ورجال المال والأعمال؛ لأنها في معظمها تأتي في الوقت الضائع وقبل أشهر من مغادرة «تيار المحافظين الجدد» واشنطن. والوقت الضائع في المنطق السياسي يعني أن الطرف الأقوى في المعادلة يريد تطويع مراكز القرار بأسرع فترة ممكنة. ولأن المساحة الزمنية باتت محدودة فإن منطق السياسة يفرض على الإدارة الأميركية الصراخ ورفع وتيرة القلق حتى تكسب أكبر كمية من الأوراق بهدف تحسين شروط التفاوض الذي يقال إنه بلغ مرحلة متقدمة من «التساكن» والتفاهم على مناطق النفوذ في بلاد الرافدين.
صراخ بوش يرجح أن يلقى عدم التجاوب؛ لأنه أصلا يعتمد سياسة مخادعة تقوم على خطين. الأول إرسال الأساطيل الحربية وإجراء مناورات وإطلاق صيحات الحرب. والثاني إصدار تصريحات تتحدث عن استعداد للتواصل والتفاهم ميدانيا وسياسيا. ومثل هذه السياسة المخادعة التي كشف عناصرها تقرير المخابرات الأميركية المشتركة (16 جهازا) باتت في موقع هزيل ولم تعد قادرة على تمديد فصول مسرحية انتهى عرضها منذ العام 2003.
الحرب لن تقوم وليست آتية ولا مبرر لاندلاعها فلماذا إذا تصر الإدارة على اطلاق تلك الخطب النارية وتحرض الأطراف على بعضها وتشغل العالم بمخاطرَ مختلقةٍ لا أساس لها من الصحة؟
الجواب عن السؤال يمكن قراءة مواده الأولية في فلسطين وليس في الخليج. فالولايات المتحدة لا تعاني من مشكلات حادة في منطقة الخليج، كذلك باتت في وضع مريح نسبيا في بلاد الرافدين ويرجح أن تتخذ سلسلة تدابير باتجاه موضعة قواتها في العراق تحت سقف «التساكن» و «التعايش». المشكلة إذا في فلسطين. وعلى رأس أولوية اهتمام واشنطن في تلك الدائرة المشرقية يأتي موضوع «أمن إسرائيل» والسبل السياسية المطلوبة لضمان استقرار تلك الدولة.
الباب الفلسطيني يشكل ثغرة تقليدية في السياسة الأميركية باعتبار واشنطن تريد دائما الجمع بين التعارضين. فهي من جهة تطمح إلى ضمان أمن النفط وهذا لا يتم من دون تفاهم مع دول الخليج العربية وإيران. وهي من جهة تصر على ضمان «أمن إسرائيل» حتى لو كان الأمر على حساب مصالح دول الخليج مجتمعة. وعملية الجمع بين التعارضين شكلت دائما نقطة توتر سياسية عطلت إمكانات صوغ استراتيجية عامة تتسم بالواقعية والعقلانية والاعتدال.
اللاعقلانية
صراخ بوش أكبر دليل على تلك اللاعقلانية التي توصلت إليها إدارته. وعماد تلك السياسة اللاعقلانية يمكن ملاحظته في خطابات الرئيس الأميركي النارية التي تريد إقناع الدول العربية بأن الخطر مصدره ايران وليس «إسرائيل» وبالتالي على المنطقة العربية التحالف مع تل أبيب في معسكر واحد لمواجهة طهران.
هذا المنطق الأعوج لا يمكن التعبير عنه سوى بالصراخ وإطلاق خطب نارية بقصد إثارة الخوف من «فزاعة» قررت واشنطن «التساكن» معها في العراق. وإذا كانت إدارة بوش قررت «التعايش» مع ذاك الخطر المصطنع فلماذا إذا تريد توريط دول الخليج العربية في مواجهة سياسية لا منطق لها سوى الابتزاز المالي ونشر الفوضى والكراهية بين شعوب المنطقة.
المسألة لا تحتاج إلى فلسفة لإدراك عناصرها وأهدافها. فالولايات المتحدة تريد أن تبقى الطرف الأقوى الذي يرجح المعادلة الإقليمية. وهذا الأمر لا يتحقق من دون تقطيع جسور التواصل ومنع التطبيع وتعطيل العلاقات حتى تلعب دور اللاعب «السوبر» الذي يستطيع التنقل بين الضفتين. سياسة «فرق تسد» تشكل تلك الرافعة التي تريدها واشنطن لمنع قوى المنطقة من التفاهم في وقت تكون الإدارة تقوم بمد الجسور المستقلة بينها وبين عواصم الدول. فهي تتفاهم «فنيا» و «تقنيا» مع إيران وتحرض الدول العربية عليها. ثم تتفاهم «فنيا» و «تقنيا» مع الدول العربية لتحسين شروط تفاوضها مع طهران بشأن «مشروع التخصيب» أو «الملف العراقي». وهكذا تتحول واشنطن إلى وسيط يلعب على مصالح الضفتين في وقت تكون قد ضمنت شروط حماية أمن «إسرائيل» وعدم تعريضها لمشكلات تؤخر سياسات الاستيطان والتوطين.
«الفزاعة» الإيرانية هي واجهة سياسية لإلهاء الدول العربية ومنعها من التفرغ أو التركيز على القضية المركزية. وهذا الأمر يتطلب على الملقب الآخر ترتيب تفاهمات تقضي بتأمين شروط الحماية لأمن «إسرائيل». والطرف الذي يتمتع بمواصفات إقليمية تضبط الحدود المشرقية مع الدولة العبرية يصبح له الأفضلية في العلاقات السياسية. وهذا الطرف يحتاج بدوره إلى موقع خاص يتمثل في نفوذ مقبول أميركيا في الساحتين اللبنانية والفلسطينية.
على هذا الأساس الاستراتيجي يمكن التقاط الكثير من الإشارات الضوئية التي ترسل بين فينة وأخرى من واشنطن إلى دمشق أو من دمشق إلى واشنطن. فالإشارات لاتزال حتى الآن غير واضحة وهي تتحرك بين الأحمر والأصفر والأخضر ولكنها في معطاها العام بدأت ترسم تلك الفواصل التي تحدد معالم الطريق السياسي في لبنان وفلسطين.
فلسطينيا يرجح أن تلقى سلطة محمود عباس المزيد من الصعوبات في وقت أخذت المعلومات ترشح عن وجود اتصالات «فنية» و «تقنية» بين «حماس» وحكومة تل أبيب. ولبنانيا يرجح أن تستمر أزمة «الفراغ الرئاسي» إلى أن تستنفد مرحلة «الفوضى المنظمة» وظائفها وتبدأ لغة العنف تأخذ دورها الميداني لإغراق القوى في مستنقع يعطل على المقاومة مواصلة مشروعها. وحين تنزلق المواقع اللبنانية إلى هاوية التصادم الأهلي تنفتح الآفاق المحلية على أبواب ساخنة تتجاذبها القوى الدولية والإقليمية باتجاه تقاطعات تلبي حاجات «إسرائيل» الأمنية.
خطابات بوش «النارية» بائخة ولكنها في المعنى المتداول أميركيا لها مدلول لوجستي وبراغماتي. والخطابات على رغم تفاهتها اللفظية تتضمن الكثير من الأوراق السرية التي يبدو أنها ستنكشف على الطاولة في موعد أقصاه لا يتعدى جولة بوش الثانية التي تم توقيتها في مايو/ أيار المقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1957 - الإثنين 14 يناير 2008م الموافق 05 محرم 1429هـ