العدد 1955 - السبت 12 يناير 2008م الموافق 03 محرم 1429هـ

«العشاء الأخير»... في جولة نهاية العهد!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

في زيارة توديعية هي أشبه ما تكون باحتفال نهاية العهد لربان سفينة تشرف على الغرق وغادرها أكثر ملاحيها الأساسيين طلبا للنجاة منفردين بل «ملاحاتها» اللاتي عملن معه بجد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في إطار مهمة «تحسين الصورة» وتنقيتها من سوءات الحالمين بالعصر الامبراطوري، عدا واحدة هي أقرب للملاحين منها للملاحات أعني كوندواليزا رايس، يقوم الرئيس بوش بآخر استعراض لعضلات قوة الدولة العظمى في العالم، في إطار جولة شرق أوسطية بدأت قبل أيام وها هي تشرف في هذه اللحظة على نهاياتها من دون تحقيق أي من أهدافها المعلنة سوى استعراض القوة الأخير، الذي قد يشبه في أحد أبعاده لوحة العشاء الأخير!

ولمّا كان المعروف أن «الملاحة» الأكثر ثقة بالنفس من بين سائر الملاحين الذين غادروا السفينة المنخورة هي صاحبة فكرة أنابوليس الشهيرة فإنها كانت هي الأخرى صاحبة فكرة استكمال مهرجان «الصورة الوداعية» من خلال إضافة البعد الأكثر إثارة في اللوحة ألا وهو «احتواء النفوذ الإيراني»! فكانت الجولة التي بدأت كما هو معروف بحكاية استفزاز ثلاثة من قوارب الحرس الثوري الإيراني سفنا حربية أميركية تمخر عباب مضيق هرمز... لتنجح الملاحة التي غلبت ديك تشيني في الاستراتيجية كما في التكتيك!

ليس المهم التوقف كثيرا عند نقطة «من استفز من؟» في رأيي ونحن نقرأ حادث تصعيد الموقف بين واشنطن وطهران في مضيق هرمز بقدر ما هو مهم أن نقرأ صحيحا وبدقة الأجواء التي جعلت هذا الاستفزاز يأخذ المعاني التي أرادت رايس أن يأخذه وهي تقوم بمهمة الانتقال من معادلة الخيار العسكري إلى معادلة الخيار التفاوضي مع طهران!

وإليكم الصورة التي نتصوّرها نحن أصحاب الإقليم وأهل المنطقة والتي نعتقد أنها أقرب إلى ملامسة الواقع من تلك التي حاولت أميركا أن ترسمها في وسائل الإعلام الغربي المضللة:

إن بوش الذي يزور المنطقة منكسرا في كل الملفات من العراق إلى لبنان إلى افغانستان إلى باكستان إلى فلسطين التي لم تستطع الملاحة الماهرة رايس أن تحفظ له سوى بعض ماء وجهه في أنابوليس بسبب تعنت «إسرائيل» ودعم تشيني الذي يشعر بأنه خسر كل الرهانات حتى الداخلية. كان بحاجة إلى أن يظهر بالقفاز الحديدي إلى جانب القفاز الحريري الذي تحاول رايس أن تبقيه غالبا من أجل النجاح في مهمة تحشيد من تسميهم الإدارة الأميركية معسكر الاعتدال العربي. ولما كان من جملة أهداف الجولة ارسال اشارة حازمة لطهران ان الشق الثاني من الزيارة - أي احتواء ما سمي النفوذ الايراني - ليس أقل أهمية من تحقيق «السلام الشرق أوسطي». فقد كان يتوجب على آلته الدعائية ان تفتعل ضجة اعلامية ما. وهل غير مضيق هرمز يصلح لكل ما سبق من أهداف لترميم الصورة العامة؟

فمن جهة طهران لم يكن هناك أي جديد على الإطلاق كما ذكرت بياناتها الرسمية. فهي «كانت وستظل تقوم بمهمة مراقبة حركة السفن الحربية الأميركية الداخلة إلى حوض الخليج بصورة لا مشروعة بحسب قوانين البحار الدولية» كل ما هنالك إنها قد تكون تشددت بعض الشيء هذه المرة لتقول للأميركيين إن «نظام الهدهد» الذي اخترعته حديثا لرصد حركة السفن في المنطقة يعمل جيدا جدا وقادر على عد أنفاسهم!

فكانت الضجة، وكان الإنذار، وكان التهديد والوعيد، وكانت حركة الدعاية ومكنة الحرب النفسية المطلوبة لتأمين الشق الخاص بالايحاء بأن زيارة الرئيس المنهك القوى في غير ساحة إقليمية قادر على احتواء إيران فعلا متى شاء! مع ما يحمل ذلك من معانٍ إضافية تفيد فيما تفيد ردَّ بعض الاعتبار والوجاهة للرجل الحديدي الذي خسر الرهان أمام الآنسة ذات القفازات «الحريرية» أي تشيني!

والضجة والتهديد والوعيد مطلوب أيضا كما هو معلوم ليس فقط لتكثيف الضغوط على الأصدقاء والحلفاء للاستمرار في جهود التحشيد السلبي ضد «الشر» المستطير الكامن في طهران على رغم تقرير المخابرات الأميركية الأخير! «فمن يوقف مساعي التسلح النووي في العام 2003، يمكن له أن يعاود مساعيه مجددا إذا توقفت الضغوط...!» كما ردد بوش حديثا بالتنسيق مع مكنة الدعاية الصهيونية التي ترافق جولته الحالية بالتركيز على الشق الإيراني منها؛ حتى تتمكن من تخفيف الضغوط الدولية عليها بخصوص تملصها حتى من توصيات «أنابوليس» التي هي لا شيء يذكر بالنسبة إلى العرب فضلا عن الفلسطينيين. بل في عسكرة الفضاءات الكلية في الإقليم لعل ذلك ينفع في تحقيق المزيد من صفقات التسلح لدول المنطقة!

ولكن بوش المكابر والمتحايل على توصيات لجنة «بيكر - هاميلتون» والعارف أكثر من غيره أنه أعجز من أي وقت مضى في ممارسة الضغط على طهران ناهيك عن اللجوء إلى الخيار العسكري ضدها في ظل رفض قاطع من قِبل دول المنطقة لتغطية أية حرب جديدة، يأمل في الواقع من وراء كل ذلك في أن يخرج من جولته الحالية التي قد تكون أشبه بـ «العشاء الأخير» كما قلنا وقبل دخوله في «الكوما» الانتخابية، ولو ببعض الصور التذكارية التي تذكره بعضلاته التي كانت تخيف فعلا وترهب حقا بعض المذعورين وبقايا عهد الاستبداد في المنطقة أيام كان العالم يريد تغطية حملة التخلص من نظام صدام حسين.

غير أن هذه الصورة قد تفيد هنا صاحبة مشروع «أنابوليس» والجولة الراهنة رايس أيضا التي تحاول أن تظلل محادثات بغداد الأميركية - الإيرانية المؤجلة بضجة بوارج مضيق هرمز، بعد ان تلقت غير إشارة من طهران عن وجود برودة متناهية في تلبية الدعوة للجولة الرابعة وأنها «عايزة ومستغناية» كما يقول المثل وأنها «هي - أي طهران - من يضع الشروط لمثل هذه المحادثات وليس واشنطن إذا كان لابد من شروط» كما قال وزير الخارجية الإيرانية منوشهر متقي أخيرا ردا على تصريحات رايس التي قالت فيها إنها «مستعدة لزيارة طهران وإن لا عداوات دائمة بين الدول شريطة أن توقف طهران التخصيب»!

إذا، ليس هناك ثمة جديد في عالم عرض العضلات الأميركي المتواصل بقدر ما هو دق لبعض المسامير الحديدية على كعبي «خفي حنين» التي سيعود بهما بوش من جولته الراهنة، تماما كما كانت الحال مع مظاهرة «أنابوليس» الفاشلة، وذلك إرضاء لكبريائه ومكابرته أكثر من أي شيء آخر! عدا إضافة جديدة واحدة قد تكون من «نِعَم الله» الكثيرة التي تتدفق في هذه الأيام على الرئيس الإيراني أحمدي نجاد على ما يبدو دعما لنظرية «الدعم الإلهي» التي بزّ بها نظيره الأميركي، وذلك بتصادف تحطم طائرتي إف 18 فوق مياه الخليج في هذا التوقيت بالذات من دون إطلاق رصاصة إيرانية واحدة!

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 1955 - السبت 12 يناير 2008م الموافق 03 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً