يواصل الرئيس الأميركي جورج بوش جولته في بعض دول «الشرق الأوسط» حاملا معه مشكلاته الأربع. الأولى إن الولايات المتحدة تراجع موقعها الدولي في عهده مقارنة بالعهود السابقة. الثانية فشل الولايات المتحدة في احتواء أزمات «الشرق الأوسط الكبير أو الصغير» من باكستان إلى السودان. الثالثة تحالف بوش الايديولوجي مع دولة «إسرائيل» وانحيازه المطلق لسياسات العدوان التي تعتمدها حكومة إيهود أولمرت. والرابعة الفوضى الأمنية وزعزعة الاستقرار والتهديدات المستمرة بمواصلة نهج التقويض ضد دول المنطقة الإسلامية والعربية.
تبدو هذه المشكلات الأربع غير قابلة للتفاوض حتى يمكن تجاوزها أو معالجتها موضوعيا وعقلانيا. فالرئيس الأميركي الذي زار تركيا والقدس المحتلة ورام الله والكويت ووصل أمس إلى البحرين ومنها سينتقل اليوم إلى الإمارات والسعودية ومصر يراهن على إمكان شرح وجهة نظره للدول العربية والخليجية المعنية مباشرة أو مداورة بالملفات الساخنة التي ترتفع يوميا درجات حرارتها. ويبدو أن رهان بوش ليس في محله باعتبار أنه لايزال يدور في فلك سياسة تبدو «ايديولوجية» في تعاملها مع مصالح الدول وأمنها واستقرارها ورؤيتها للعلاقات الدولية والإقليمية.
بوش الذي غادر فلسطين أمس الأول ترك خلفه مجموعة قنابلَ موقوتة قد تنفجر إذا لم تتدارك الأطراف مخاطرها وتسارع إلى احتواء عناصرها التفخيخية. فهو جدد تأكيده «يهودية إسرائيل» من دون أن يوضح مقاصده من هذا الكلام. فاليهودية الصافية تعني منع عودة الفلسطينيين إلى ديارهم وتحتمل أيضا فرضية ترحيل الفلسطينيين من أراضي 1948 أو على الأقل انتزاع حقوقهم المدنية (الترشح والانتخاب وغيرهما من نقاط حساسة كالتملك والبناء). والكلام عن يهودية الكيان الصهيوني في مناسبة البحث عن مصير المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية اقترن في خطاب بوش بالإشارة إلى تقديم اقتراح بشأن البحث في آلية دولية لتعويض اللاجئين.
هذا الكلام البوشي مخيف في توجهاته السياسية. فهو لا يقتصر على تعويم فكرة «يهودية إسرائيل» وإنما يقدم مشروع حل يعوض عن الفلسطينيين عدم عودتهم إلى ديارهم. وفي حال صدق بوش في كلامه واتجه نحوه ميدانيا يكون بذلك أوجد مشكلة خطيرة قد تهدد سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالانهيار وتقوّض احتمالات قيام دولة فلسطينية «قابلة للحياة» وتعرّض الكيانات العربية المجاورة لفلسطين لمزيد من موجات النزوح في حال نجح الجناح الصهيوني المتطرف في الانتخابات التشريعية المقبلة.
لم يقتصر كلام بوش العشوائي على الجانب الفلسطيني. وإنما امتد إقليميا ليسقط على الدول الخليجية مجموعة قناعات أميركية لا تجد ذاك القبول من الجانب العربي. فالرئيس بوش حاول إقناع محاوريه بأن «إسرائيل» دولة عادلة ومعتدلة ولا تشكّل ذاك الخطر الأمني أو الاستراتيجي على العرب ودول الجوار. وبناء على قناعته هذه حاول ترويج بضاعة فاسدة تقوم على نقطتين: الأولى دعوة العرب إلى مد يد التعاون أو التحالف مع «إسرائيل». والثانية دعوة دول الخليج العربية إلى استعداء إيران والتعاون مع الولايات المتحدة بهدف احتواء نفوذها.
هذا النوع من الاستخفاف بعقول المنطقة ومصالحها وتوازناتها اثار ردود فعل سلبية على الموضوعين الفلسطيني والإيراني. فمن الجانب الأول أعاد زعماء الدول العربية تذكير بوش بأن «إسرائيل» هي الطرف المطالب بمد اليد ورد التحية؛ لأنها رفضت للمرة الثانية في أقل من خمس سنوات مشروع المبادرة العربية ودعوتها إلى التصالح والسلام. ومن الجانب الثاني أكد الزعماء العرب عدم خشيتهم إيران بصفتها دولة جارة وتشكل ضلعا من منظومة الأمن الإقليمي وبالتالي يمكن «التساكن» معها من دون خوف أو تخويف.
مزاج رئيس
مزاج بوش الذي يعيش أجواء مغادرة «البيت الأبيض» حاملا معه لقب أسوأ رئيس للولايات المتحدة منذ استقلالها وتأسيسها، لايزال يخاطب سياسة دخلت منطقة «الغيبوبة» بعقلية تسلطية ورؤية تتحكم في آلياتها نزعة الغرور والتشاوف. فالرئيس وعد المنطقة قبل أن يغادرها بأنه سيعود إليها في مايو/ أيار المقبل ليراقب بالعين المجردة مدى نجاح سياسته واقتراحاته. فهو لمّح إلى إمكان تخفيف القوات الأميركية في العراق بدءا من شهر يوليو/ تموز المقبل باعتبار أن خطته الأمنية لاقت النجاح وفرضت الأمن والاستقرار. ولمّح أيضا إلى أن القوات الأميركية ستعيد انتشارها (تموضعها) في بلاد الرافدين وستبقى موجودة في القواعد العسكرية مدة تتراوح بين سنة وعشر سنوات.
هذا التلميح العراقي «المزدوج» ترافق مع تصعيد لفظي ضد إيران وتهديدات وتحذيرات على خلفية حادث أمني تبيّن لاحقا أن واشنطن اصطنعته في مضيق هرمز بقصد لفت الانتباه إلى زيارته وجذب عدسات التصوير إلى منطقة يريد أن يحولها إلى مثال لتجاربه ومغامراته العسكرية. حادث هرمز المفتعل يكاد يتحول إلى فضيحة إعلامية بعد أن انكشفت تفصيلات بشأنه وظهرت خفايا اللعبة الأميركية من وراء إثارته. فالحادث عادي ويتكرر يوميا منذ سنوات ولكن بوش استخدمه لتمرير قناعاته «الايديولوجية» التي تقول بوجود خطر أمني على مضائق المياه وقنوات نقل النفط من المنطقة. وهذا يعني سياسيا أن الولايات المتحدة استهدفت من تحذيراتها الدول العربية وليس إيران. فهي لا تريد الحرب. وإنما تريد بناء جبهة بقصد استنزاف طاقات المنطقة وثرواتها.
تصريحات بوش الموجهة إلى إيران هي مجرد غطاء سياسي لابتزاز الدول العربية وتخويفها أمنيا والتهويل بالخطر حتى تكون في وضع ضعيف وجاهز للقبول بخيارات بوش وسياساته الإقليمية التي يمكن تلخيصها بالأمور الآتية: أولا التسليم بضياع فلسطين والقبول بالدولة «اليهودية» والتعاون معها بصفتها قوة معتدلة لا تشكل ذاك الخطر الموهوم. ثانيا القبول باحتلال العراق وتقسيمه إلى دويلات طائفية تديرها سلطات محلية في الجنوب والشمال والوسط والغرب بإشراف أميركي وإدارة تتخذ القواعد العسكرية مناطقَ تفصل وتعزل «الكانتونات» المذهبية. ثالثا الموافقة على الدور الأميركي في الخليج بصفته يشكّل تلك الدرع الأمنية التي تتحكم في مفاتيح الحماية وتتصدى لخطر إيران ونمو نفوذها الإقليمي.
جولة بوش التي لم تنتهِ فصولها يرجح أن ترفع نسبة التوتر في المنطقة بعد إضافتها مجموعة نقاط ملتهبة على الملفات الساخنة. ففي الملف الفلسطيني طرح إشكالا خطيرا سيترك آثاره على دول الجوار في حال قررت الإدارة تحويل الوعود إلى وقائعَ ميدانيةٍ. وفي الملف الخليجي أضاف بوش عناصر توتير لا بقصد شن حرب على إيران، وإنما بهدف ابتزاز الدول العربية من طريق تخويفها بنمو نفوذ الجار الإقليمي. وفي الملف العراقي أوضح بوش أن خطته تقضي بتنظيم الانسحاب وموضعة الاحتلال في قواعدَ دائمةٍ تشرف على إدارة دويلات الطوائف والمذاهب. وفي الملف الإقليمي اتجه بوش إلى إعادة تقسيم دول المنطقة إلى «معتدلة» و «متطرفة» تحت سقف المعركة الدولية لمكافحة الإرهاب. وفي المجموع العام يكون بوش - الذي حمل معه إلى المنطقة مشكلات أميركا الأربع - سيعود إليها بعد أربعة أشهر مضيفا إلى مشكلاته أزمات حادة تهدد بتقويض استقرار الدول وخصوصا تلك المجاورة لفلسطين والعراق.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1955 - السبت 12 يناير 2008م الموافق 03 محرم 1429هـ