من فلسطين المحتلة، يبعث العدو برسائله المميتة إلى الواقع العربي والإسلامي، في عمليات الحصار التجويعي الخانق الذي يُسقط كل عناوين حقوق الإنسان، ليقول للعرب كلهم، وللمسلمين من حولهم، إنّ عنصر الضعف فيهم هو الذي يضغط على غزة، لتكون البطن الرخو في الأمة، وموقع الاستعراض الذي يبحث العدوّ من خلاله عن إمكان العودة إلى مستوياته المعهودة في القوة الردعية التي يحاول الحصول عليها بالضغط على أفواه الأطفال، وبإقفال الأبواب في وجه عناصر الطاقة... بينما ينعم هو بالطاقة الغازية العربية، وربما بطاقات سياسية وإعلامية واستخبارية تدخل إليه من المنافذ العربية المتعددة بوسائل مختلفة.
وإلى جانب حرص العدو على انتزاع عناصر القوة من غزة في الموقف والسلاح، وتهديده بشنّ حرب تدميرية على البنية التحتية اللبنانية على خلفية سلاح المقاومة وموقفها، تنطلق من ساحاتنا الداخلية كلمات تحاكي العدو حتى في مشاعره وأحاسيسه، بانفعالية سياسية مستغربة، وخصوصا أن هؤلاء كانوا المطيّة لجملة من المشاريع الوافدة، ورأوا بأم أعينهم كيف أن الأمة أسقطت العدو ومن سار في خطه، بعدما احتضنت مشروعا مقاوما واحدا.
ولعلّ ما يبعث على الاستغراب أكثر، أن العدو يعرب عن قلقه من إمكانية أن يتزوّد الجيش اللبناني بدبابات أميركية من نوع (أم60)، ويتحدث في وسائل إعلامه ـ فيما يشبه حال الرعب ـ عن التنسيق الحاصل بين الجيش والمقاومة، وعن أن المقاومة ضاعفت قوتها منذ حرب يوليو/ تموز من العام 2006 ثلاث مرّات، ولا يكفّ هؤلاء «اللبنانيون» عن التصويب على الهدف نفسه.
إننا نقول للعرب أولا: إن «إسرائيل» هذه التي تدغدغ أحلامكم بعنوان «الاعتدال»، ستبذل كل الجهود لإبقائكم تحت رحمة مشاريعها وخططها الجهنمية، والتي لا تقيم فيها وزنا لأي شيء عربي أو إسلامي، ولو أمكنها أن تحاصركم جميعا في بيوتكم وشوارعكم وساحاتكم لفعلت، وبالتالي فهي أبعد ما تكون عن تلمّس خطوات السلام معكم، لأنها تتطلع إلى السيطرة عليكم ومصادرة قراراتكم وثرواتكم، ولا تنظر إليكم إلا بعيونها العنصرية الحاقدة التي ترى في العرب حشرات وأفاعي وعناكب، كما تحدث عنهم حاخامهم الأكبر.
ونقول للبنانيين ثانيا: إن عليكم أن تعرفوا أنه في اللحظة التي تقررون أن تتنازلوا عن عناصر القوة الموجودة فيكم، وأن تنسحبوا من مسئولياتكم في الدفاع عن أرضكم وعرضكم، وأن تسقطوا من أيديكم السلاح الذي أسقط جبروت المحتل وأذاقه ألوان الهزيمة، ستتعامل معكم «إسرائيل»، كما تتعامل مع غزة في هذه الأيام، وهي لن تكون ـ عندها ـ في حاجة إلى ضرب بنيتكم التحتية وتهديمها، لأنها ستمسك ـ حينئذٍ ـ بمفاتيح المياه والكهرباء والوقود، وما إلى ذلك.
ونقول للفلسطينيين ثالثا في السلطة الفلسطينية وخارجها: إن الآلام التي تعتري شعبكم بفعل سياسة الحصار التي يديرها العدو إلى جانب شخصيات عربية وجهات دولية، ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه لولا تفرقكم وتشتتكم، ولولا نزاعاتكم التي أذهبت ريحكم وجعلتكم تتحركون أمام العالم كمزق متنافرة وأطياف متباعدة.
إننا في الوقت الذي نبكي دما على الشعب الفلسطيني الحيّ والمعطاء والصامد، والذي يختزن في عذاباته وآلامه آلام كل المستضعفين والجائعين والمعذبين في الأرض، نناشد القيادات الفلسطينية من هنا وهناك، أن تهجر غرورها وتتطلع إلى شعبها، وتباشر عملية الحوار الداخلية قبل أن تأكل أطماعها وخلافاتها البقية الباقية من كل ما يتصل بفلسطين الشعب والقضية.
أما الجامعة العربية، فقد أصبحت اسما يمرّ في الذاكرة الشعبية العربية من دون أن يُحرّك فيها شيئا، لأنها لم تقتصر على كونها جامعة التناقضات العربية، بل أصبحت جامعة للسقوط العربي المدوّي أمام العدو، وباتت تغري العدو بالعدوان أكثر، فهي لا ترد ضيما ولا تسترعيبا.
إن ما نشاهده في فلسطين المحتلة لا يمثل تضييقا على حركة الفلسطينيين فحسب، ولكنه تقييدٌ للحركة العربية كلها، ولا هو إقفالٌ للمعابر الفلسطينية فحسب، بل هو إقفالٌ لكل معابر الحرية في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، وليس هو حصارٌ لغزة وللفلسطينيين، ولكنه الحصار المضروب على الكرامة العربية والإرادة الإسلامية، وبالتالي فمن حق النسوة والأطفال والشيوخ في فلسطين أن يصرخوا بأعلى أصواتهم مردّدين: وا إسلاماه، وا عروبتاه، ومن حقنا أن نجيب: وا خجلتاه، وا كرامتاه.
العراق: ضبابية في المشهد وفوضى أمنية
أما في العراق، فليس المشهد أقل تعقيدا في مستقبل بلد يلفّه الغموض بين ما هي خطط المحتل لإدامة احتلاله مهما هدّد بالرحيل الوشيك، وما هي خطط الجهات التكفيرية التي تمعن قتلا وتفجيرا في أجساد العراقيين من دون أن تميّز بين أطفال ونسوة وشيوخ وقوى أمن وموظفين وأساتذة جامعات، ما دامت اللافتة هي: قتال المحتل. والواقع يشير إلى أن النبض الإنساني أو الإسلامي لا يتحرك في هؤلاء الذين باتت عشوائياتهم ووحشياتهم تتحدث عن أعمالهم وفظائعهم في شوارع العراق وسككه العامرة بالمستضعفين والفقراء والأيتام والثكالى.
إننا في الوقت الذي نستشعر الخطر، كل الخطر من خطط العدو العاملة على إدامة الاحتلال من خلال الاستفادة من هذه الفوضى الأمنية التي يُقتل فيها الأبرياء من دون رحمة، نريد للعراقيين أن يلتفتوا إلى اختراقات الموساد الإسرائيلي لساحاتهم الخلفية والأمامية والوسطية، كما نريد لهم أن يعضوا على الجراح، وينطلقوا كصف واحد وبنيان مرصوص في مواجهة المحتل، وضد الذين يصنعون المجازر الوحشية في المدنيين، وأن يتحركوا في خلافاتهم السياسية بالحوار الموضوعي المسئول، لا من خلال التعقيدات الطائفية والعرقية والحزبية، من أجل تحقيق الوحدة الوطنية التي هي الأساس في عودة العراق إلى شعبه حرا سيدا مستقلا.
لبنان: صخب سياسي في موسم الانتخابات
أما في لبنان، فها نحن نستمع إلى مزيد من الصخب في الكلمات العشوائية التي تنطلق في الاحتفالات الشعبية، وفي العنتريات السياسية التي لا ترصد واقع الأمور وخلفياتها، ولا تستشرف المستقبل أو تتطلع إليه بعيون مفتوحة، لأن المشكلة في لبنان تكمن في هذا العقم السياسي الذي حال دون ولادة قيادات شابّة منفتحة ومسئولة، لتبقى الدور السياسية التي تضج بالوراثة التقليدية تفرض نفسها على الأجيال اللبنانية، بذهنياتها المغلقة، وعصبياتها القاتلة، ولتدفع بالشباب اللبناني إلى التقاتل والتناحر في ساحات الجامعات، بدلا من أن تأخذ بأيديهم إلى ساحات الحوار التي ينبغي أن تبقى مفتوحة على أفق المحبة والرحمة والحرية التي لا حياة للبنان من دونها.
إنها الذهنيات المتقلّبة والعقليات المتخشّبة التي تستيقظ أكثر ما تستيقظ مع بدء المواسم الانتخابية، فتصنع لنفسها شرنقة عائلية أو مذهبية أو طائفية، وتحسب أنها تمثل البلد، وتختزل الشعب... إنه البلد الصغير الذي أنتج الكبار الكبار، ولكنه يظل رهينة للصغار الذين تنتجهم الأوضاع المذهبية والتعقيدات السياسية والمصالح الفئوية مع كل انتخابات تأتي، وفي كل مواسم الإنتاج المحلي التي تُديرها الاستخبارات من الخارج والداخل... وكل موسم ولبنان بألف خير
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2282 - الخميس 04 ديسمبر 2008م الموافق 05 ذي الحجة 1429هـ