كتابات فؤاد قازان ترى أن النظام الإقطاعي السائد في مناطق الجبل منذ القرن الرابع الميلادي لم يكن على نقيض النظام الإقطاعي القائم في المنطقة على رغم وجود بعض الاختلافات القائمة ليس بين «نظام الإقطاع اللبناني» وبين غيره من الأنظمة فقط وإنما أيضا بين الأنظمة الإقطاعية السائدة في المناطق الجبلية الثلاث في لبنان (الشمال، الوسط، والجنوب). كما أن النظام الإقطاعي الذي ساد الجبل خلال فترات حكم عائلات البحتريين والمعنيين والشهابيين تشكّل في فترة «الغزو السلجوقي - التركي» واستمر بعد ذلك إلى العام 1860م (1277 هـ).
يشرح قازان هذه الفرضية بالقول: «كانت هذه الحروب تدخل تعديلات في النظام الإقطاعي المسيحي (خصوصا إبان سيطرة الأتراك السلاجقة) رجل حرب يفرض على فلاحيه وأقنانه امتشاق السلاح مقابل حمايتهم من الغزو الخارجي». وهكذا ظهر في لبنان ما يمكن تسميته بالإمارة وهو لقب كان عسكريا أكثر منه مدنيا. فالأمير ينتخبه الملاكون الكبار أي «المقاطعجية» من مشايخ ومقدمين. أما عن المناطق الدرزية يقول قازان: إن النظام السياسي كان في بدايته أقرب إلى الملكية التي يترأسها زعيم ديني وتطورت هذه العلاقة إبان الحروب بين الشيع الإسلامية فانتقلت السلطة إلى زعماء عسكريين عليهم ثلاثة واجبات: أولا، المحافظة على المذهب. ثانيا، الدفاع عن المناطق التي استقروا فيها. ثالثا، حماية الثغور من البيزنطيين». فالنظام الإقطاعي في الجبل لم يكن موحدا خصوصا بين الطائفتين الكبيرتين آنذاك (الموارنة والدروز).
يشير هذا العرض التاريخي السريع للوضع الاجتماعي الذي كان يسود جبال لبنان والمنطقة إلى أن شكل النظام الإقطاعي في «المناطق الجبلية» لم يكن يختلف كثيرا عن النظام الإقطاعي السائد في المنطقة. فالإقطاعات الجبلية اللبنانية المتنوعة كانت جزءا من كل يشمل المنطقة كلها. فهناك ملكيات كبيرة وأقنان وعبيد. ثم تغيرت العلاقات نتيجة ظروف سياسية وليست اجتماعية أو جغرافية فقط. كذلك لم يكن هناك ما يمكن تسميته «نظام إقطاعي لبناني موحد» وإنما كان هناك مجموعة أنظمة إقطاعية في المناطق الجبلية تتوحد في إطار إجتماعي عام. وهذا الأمر ليس وقفا على جبل لبنان بل يمتد حسب ظروف كل إقليم على مستوى المنطقة الإسلامية كلها. حتى نظام الإمارة الذي نشأ في جبل لبنان وأمتد وتقلص على فترات تاريخية (تبدأ من الأمراء البحتريين والمعنيين وتنتهي بالإمارة الشهابية) كانت جذوره تمتد إلى مرحلة الغزوات السلجوقية التركية التي شملت جميع المناطق المجاورة ولم تنحصر في جبل لبنان وحده.
هذا الأمر يؤكد إن نظام المحاصصة والمرابعة في لبنان متأخر في ظهوره ولم يبدأ مع بدء تشكل العلاقات الإقطاعية وإنما هو نظام لاحق لمرحلة العبيد والأقنان التي مرت بها «الجبال اللبنانية». فؤاد قازان يؤكد في تاريخه على أن لا الاقطاعي ولا أولاده كانوا يعملون في الأملاك الإقطاعية بل الفلاحون والأقنان وجماعات كانت تأتي من السهول الداخلية أكثرها من السوريين المسيحيين تخوفا من التجنيد العسكري أو بسبب الخلافات الدينية مع الفئات المسيحية الأخرى.
لقد تميزت الدولة في مرحلة الفتوحات الإسلامية - العربية وما بعد استقرارها بخصائص معينة لا يمكن نكران اختلافها عن نمو العلاقات الإقطاعية في أوروبا وتشكل الدولة الإقطاعية هناك.
الدول الإسلامية - العربية التي نشأت على امتداد فترات تاريخية مديدة كانت تحكمها قوانين عامة أو مبادئ أساسية تمثلت بسيطرة الدولة (القطاع العام) على الأملاك وإشرافها على الجباية المالية بواسطة موظفين لديها، كما يذهب وجيه كوثراني في كتابه «الاتجاهات الاجتماعية السياسية في جبل لبنان والمشرق العربي 1860 - 1920». هذه القوانين أو المبادئ مستمدة أساسا من الشريعة الدينية التي لا يعطيها المؤرخون حقها في التأثير على الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي تميزت بها المنطقة الإسلامية. فالقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية لعبت دورا في اختصار الزمن، وحققت قفزات متفاوتة في التطور الاجتماعي أدت إلى نهضة اقتصادية ثقافية في مسافة زمنية - تاريخية قصيرة نسبيا نتيجة سلسلة التطبيقات الميدانية على الأرض ولطبيعة الصراع السياسي الدائر آنذاك. وكان من نتائج لجوء الدول الإسلامية إلى هذا النهج الخاص في بناء الدولة إعادة توجيه (برمجة) النمو الطبيعي - التاريخي للعلاقات الاجتماعية والحد من تراكم رأس المال من دون أن يمنع ذلك نمو علاقات ضمن نمط خاص من الحياة الاقتصادية السياسية الدينية. وهذا النمط الخاص في مراكمة رأس المال أطلق عليه مكسيم رودنسون في كتابه «الإسلام والرأسمالية» صفة «التحايل على النصوص».
هذا النمط الخاص من العلاقات الإنتاجية الذي ساد عموما مختلف العصور العربية - الإسلامية أتاح نشوء نوع من «التعايش الديني» بين الأكثرية الحاكمة والأقليات الدينية الأخرى. فالتعايش الديني هو شكل من أشكال العلاقة التي نسجتها الدول الإسلامية - العربية مع غيرها من الفئات الدائرة في فلكها ومن القوى الخارجة عليها.
كان من نتائج هذا «التعايش الديني السلمي» أن دخلت الأقليات الدينية في «مسام» ومفاصل المجتمعات الإسلامية ونجحت في تأمين وظائف اقتصادية تضمن دورها المستقل مستفيدة من تلك العلاقات الخاصة (التسامح الديني) التي حاكتها الدول الإسلامية على الفترات الزمنية المتلاحقة. وبسبب هذا التمايز الديني - الاقتصادي (الاعتراف باختلاف الآخر) تأسس في ما بعد ما يسمى بمشكلة الأقليات الدينية في المشرق عند بدء تغلغل الدول الأوروبية وازدياد نفوذها في المنطقة. وفي هذا الإطار التاريخي العام والمشترك بدأت «الشخصية اللبنانية» بالنمو المستقل وأخذ الصراع على الهوية الثقافية يتجدد ويتلون بالطوائف والمذاهب المنتشرة في الجبال والسهول
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2282 - الخميس 04 ديسمبر 2008م الموافق 05 ذي الحجة 1429هـ