العدد 1954 - الجمعة 11 يناير 2008م الموافق 02 محرم 1429هـ

لبنان على سكة الانهيار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

للمرة الثانية عشرة تؤجل انتخابات رئيس الجمهورية. والتأجيل الأخير هو الأخطر؛ لأنه يتصادف مع مبادرة عربية حملها معه أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى إلى بيروت ويبدو أنها أخذت تغرق في المستنقع اللبناني وتفصيلاته.

التأجيل إذا حصل. والموعد الجديد قذف إلى الإثنين (21 يناير/ كانون الثاني الجاري). ويرجح أن يتزحلق الموعد الجديد إلى آخر حتى تتحول المياه اللبنانية إلى بخار. فالتأجيل المتتابع ليس بالضرورة أن يؤدي دائما إلى التجميد بقدر ما يساعد على تبخير عناصر الحل وبعثرتها في فضاءات ساخنة.

المقال المنشور كتب قبل إعلان الموعد الثالث عشر للانتخاب. وبما أنه يعتمد فرضية «التأجيل» ومخاطره فإن منطقه العام لم يتغير؛ مما اقتضى التنويه.

هل ينجح المجلس النيابي اللبناني في الانعقاد اليوم وتتوافق الكتل على انتخاب رئيس للجمهورية بناء على توصيات المبادرة العربية؟

المؤشرات تتجه نحو السلبية. فكل اللقاءات والاتصالات والاجتماعات التي جرت في الأسبوع الماضي أسفرت عن كلام عام لا قيمةَ سياسية له. فما يقال أمام عدسات التصوير في القاهرة ودمشق وبيروت لا علاقة له بالكلام الآخر الذي تتداوله الأطراف من وراء الستار. فاللعبة تبدو طويلة ومعقدة وتدخل في مطبات أهلية واتصالات إقليمية وتقاطعات جوارية تشير إلى وجود خيوط خفية تتعارض مع «الخطابات» المدروسة التي تطلق من على المنابر والمسارح. وحين يسيطر النفاق السياسي على منطق العقل وتتجه التسويات إلى غرف مغلقة لا تعرف الجهة التي تديرها أو تتحكم فيها تصبح الحلول عرضة للتلاعب والتفخيخ والتسويف والتأجيل.

«تمديد الأزمة» هو الاحتمال المرجح في جلسة اليوم. وهذا يعني أن الكتل النيابية ستتوافق مكرهة على نقل استحقاق انتخابات الرئاسة إلى موعد آخرَ. وتأجيل «الفراغ الرئاسي» مسألة سيئة في مختلف المقاييس؛ لأنها ستؤدي إلى فتح الباب للفتنة الأهلية وإقفال الممرات المؤدية إلى مجلس النواب بصفته يشكّل المرجع الدستوري لضبط الانفعالات وتقنين الاختلافات.

هذه النهاية التقويضية تدركها القوى السياسية الفاعلة على الأرض. وعلى رغم وعيها احتمال حصول هذه النتيجة السيئة فإنها كما تبدو غير آبهة بتداعيات المسألة وما تعنيه من انفجارات سلبية. وحين تتوصل القوى الفاعلة والواعية والمدركة لمثل هذه القناعة «الخرابوية» تصبح احتمالات التسوية شبه معدومة حتى لو تدخلت الجامعة العربية أو الأمم المتحدة أو كل شعوب الأرض.

القطار اللبناني يرجح أن يخرج عن سكة الحل العربي إلى الانهيار. وهذا بالضبط ما استهدفه عدوان 2006 على لبنان. فالعدوان وجه ضربات مؤلمة للمشروع العربي وقطع أوصال الدولة وعزل المقاومة وأبعدها عن الحدود. الآن وبعد مرور 18 شهرا على نهاية العدوان بدأت تتفاعل النتائج ميدانيا وتعطي معادلتها الكيماوية (الأهلية) بغض النظر عن المعطيات التي ستظهر بها الصورة. فالصورة اللبنانية ستتجه نحو مزيد من التحطيم وبلاد الأرز لن تعود كما كانت. وإذا عادت فلن تكون على الصورة السابقة. هذا بالضبط ما أراده عدوان 2006. وكل الاحتمالات المعاكسة تبدو ضعيفة أمام ترجيح احتمال خروج القطار اللبناني عن سكة الحل العربي.

الخروج عن سكة الحل مشروط بجملة من العوامل. وإذا توافرت العوامل فهذا يعني الكثير من الأمور في بلد تتكاثر فيه التضاريس السياسية الأهلية. فهناك أولا احتمال زيادة جرعات التدويل ودفع التعارض نحو التأزم الذي يعطي ذريعة للتدخل تحت غطاء تنفيذ ما تبقى من فِقرات نصّ عليها القرار الدولي 1559. وهناك ثانيا احتمال ارتفاع نسبة التدخل الإقليمي في السياسة اللبنانية وتحويل بلاد الأرز إلى ساحة للتجاذب الجواري (السوري - الإسرائيلي) كما كان عليه أمر لبنان قبل العام 2000 حين نجح حزب الله في تحرير الجنوب وطرد الاحتلال من قرى الحدود. وهناك ثالثا اتجاه العلاقات الأهلية نحو الاصطدام. والتصادم الأهلي في حال حصل سيكون أسوأ من العام 1975؛ لأنه الآن يتأسس على تجربة سابقة ويأتي في إطار فضاءات إقليمية ممتدة من البصرة إلى غزة.

خروج القطار

محصلة هذا التداخل الدولي والإقليمي والأهلي ستكون نهايتها مؤلمة وستبدأ بدفع القطار اللبناني للخروج عن سكة الحل العربي. وحين يخرج لبنان من دائرته العربية فسيكون عرضة للنهب والتمزيق والقرصنة الإقليمية والأهلية إذ ستتنافس القوى السياسية المحلية في طلب «النجدة» بذريعة حماية وجودها الذاتي من الانهيار أو التلف.

هذه المحصلة المخيفة في عناوينها وتفصيلاتها المدمرة تدركها جيدا القوى الميدانية الفاعلة على الأرض اللبنانية. وحين يصبح الوعي السياسي أقرب إلى صورة الواقع المهشم أهليا وغير قادر على تعديله أو ضبطه فإن احتمالات التسوية تتراجع لتحل مكانها استعراضات القوة وتخويف الناس بالعضلات. وهذا الأمر السلبي يمكن استنتاجه من تلك القراءات الدقيقة لمجموع التصريحات والتعليقات المتوترة والمتشنجة والعنيفة التي تصدر تباعا عن المرئيات والفضائيات اللبنانية.

لبنان دخل في اللعبة الدولية منذ العام 2004. وهو يواصل تجربته الأهلية المرّة في ضوء متغيرات إقليمية عنيفة ليست بعيدة عن تلك الصورة التي تظهر يوميا على المسارح القريبة والبعيدة. وهذا البلد الذي عاد من جديد ساحة مكشوفة ومفتوحة للتجاذبات لا يتوقع منه سوى الذهاب إلى مواجهة دموية بعد أن أغلقت أمامه كل ممرات التسوية السلمية الدستورية والسياسية.

المسألة اللبنانية دخلت في منعطف خطير. وفي حال فشل مجلس النواب اليوم في انتخاب رئيس ضمن تلك الصيغة التي توافقت عليها الدول العربية في القاهرة فمعنى ذلك أن أهل البلاد دخلوا في سياق التمديد والتأجيل والتسويف والمماطلة. وهي في المحصلة ستؤدي إلى تراكم مجموعة أخطاء تبرر في النهاية تفجير العلاقات الأهلية تحت سقف إقليمي تلعب فيه قوى الجوار الجغرافي الدور المقرر على مستوى تنسيق العلاقات وتوزيع الحصص كما حصل سابقا في العام 1976.

إعادة تَكرار سيناريو 1976 بات هو المرجح مع تعديلات ستأخذ في الاعتبار المتغيرات التي طرأت على المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية. فهناك متحولات ولكنها مهما حاولت ضبط الانفعالات الأهلية فإنها ستفشل في رسم صورة سياسية خارج دائرة الانقسامات الطائفية والمذهبية التي يمكن ملاحظة حدودها من الآن.

المسألة اللبنانية ليست بسيطة. ومجرد قراءة سريعة لتاريخ بلاد الأرز منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تمكّن من رؤية الكثير من المتغيرات الأهلية المحلية في سياق تحولات إقليمية سياسية. فهذا البلد (الجبل آنذاك) انقسم إلى كانتونين طائفيين ثم توحد في دويلة (متصرفية) ثم تعرض للانتداب الفرنسي وأعيد إنتاجه في «دولة لبنان الكبير» في 1920. وحين يكون تاريخ البلد عرضة للانقسام الأهلي فالتوحد السياسي فالانقسام ثم التوحد فمعنى ذلك أن احتمالات الانفجار والتفكك ليست مستبعدة حتى لو حاولت القوى الفاعلة على الأرض تأخير المشكلة وتأجيل المصيبة.

تاريخ لبنان الحديث مخضب بالدماء والحروب الدائمة. ومن يراجع ذاك التاريخ ويقارنه بالمشاهد والصور التي تنقلها المرئيات والفضائيات فلن يجد الكثير من الاختلاف سواءٌ على مستوى التعامل الأهلي بين الطوائف أو على مستوى التدخلات الأجنبية والتقاطعات الإقليمية في تقرير مصير البلد ومساحته وحجمه وتوازناته الديموغرافية وثقافته السياسية.

هل فات لبنان قطار الحل العربي وتجاوزته محاولات التسوية؟ الترجيحات تذهب في هذا الاتجاه. وموعد اليوم يعتبر إشارة. فإذا توجه النواب إلى المجلس وانتخبوا الرئيس يكون البلد داخلا في محطة تهدئة. أما إذا عاد النفاق السياسي ليلعب لعبته فإن بلاد الأرز ستدخل في مجهول يعرف أوله ولا يدرك آخره.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1954 - الجمعة 11 يناير 2008م الموافق 02 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً