العدد 1954 - الجمعة 11 يناير 2008م الموافق 02 محرم 1429هـ

الدساتير العربية بين الفراغ والتعديل والعبث

أمّهات المشكلات في العالم تكمن في الدساتير. فهي أساس استقرار الدول والمجتمعات، وفي الوقت نفسه علّة خرابها. الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي عنان قبل انتهاء ولايته أوصى الحكومات بعدم تعديل دساتيرها لخدمة مصالح شخص واحد «لأنها وضعت من قبل على أن تكون في خدمة الأمة على المدى البعيد».

والدساتير اليوم في العالم العربي باتت ألعوبة في يد البعض، ومقدسة لدى البعض الآخر. وكل يلعب على هواه؛ لأن من يتحكم في الدستور ليس نظام مؤسسات، بل أشخاص يفصلون التعديلات بحسب مقاساتهم.

أحد المستشارين العرب - الذي أمضى فترة بالعمل لدى رئيس جمهورية عربي - يروي جزءا من تجربته أمام عدد من الصحافيين والكتّاب في معرض التهكم على ما آلت إليه أوضاع الدساتير بالعالم بقوله: «إن هناك طبقة من المستشارين الذين يطلق عليهم (ترزية الدساتير) هم الذين يفتون للحاكم باستسهال التغيير وبما يتلاءم وبقائه في الحكم أو بما يعزز من سلطته في الحكم أو بما يقوّي من نفوذ عائلته واستمرارها في الحكم». ويستحضر مشهدا من مسرحية «غربة» لدريد لحام حين يسأل البيك (دريد لحام) الحارس (ياسر العظمة) عن الدستور فيدور بينهما الحوار التالي: «وين الدستور؟... بالخرج... ووين الخرج... ع الحمار... وين الحمار... موقوف... ليش؟... لأنه أكل الدستور...» ويجيبه ياسر العظمة مستغربا: «الحمار أكل الدستور!». ليرد عليه دريد بسخرية عجيبة: «وشلون إنهضم معه هيك دستور»! تلك الأمثولة تبيّن كم أن الدساتير «حمالة الأسية» إلى درجة أن الحمار عصي عليه أن يهضم هذا النوع من الدساتير المركونة في الخرج!

في العالم العربي ليس هناك من احترام للدستور في معظم الدول من حيث تطبيقاته أو من حيث تفصيله فقد صار «مرنا» بيد الحكام وعصيا على التعديل إذا تطلبت المجتمعات وقواها السياسية والمدنية ذلك، وأحيانا يشكل عثرة أمام القوى المتصارعة ويصبح مكسر عصا كل جهة تفسره على هواها وبما يخدم مصالحها، وبالتالي تصل الأمور إلى حدود الحروب الداخلية والاقتتال.

هناك نماذجُ مختلفة في التعامل بالدساتير في العالم العربي. وكل نموذج له قصة. ففي الجزائر يدعو رئيس الحكومة عبدالعزيز بلخادم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة للترشيح لدورة ثالثة مع أن الدستور لا يسمح له إلا بولايتين متتاليتين، علما أن مدة ولايته تنتهي العام 2009. وهذا يعني أن العائق الدستوري يمكن أن يزول طالما أن الرئيس أبدى موافقته على البقاء على كرسي الحكم بناء على رغبة الشعب! فالديمقراطية تقتضي على الطريقة العربية أن تستوعب حالات «التمديد» وإن كانت مخالفة للدستور!

ظاهرة التمديد

والحالة اللبنانية خير مثال على ذلك. فالرئيس الراحل إلياس الهراوي جرى التمديد له مرتين أثناء حكم الوصاية السوري. وكل ما يتطلبه الأمر يعاز إلى مجلس النواب المنتخب من الشعب أن ينعقد في جلسة «استثنائية» لتعديل مادة في الدستور لإكمال الرئيس العتيد مهماته التي من الصعب أن يجدوا شخصا آخرَ لديه المؤهلات والقدرات نفسها. ولذلك حصل ما حصل. وهذا أيضا ما تكرر مع الرئيس أميل لحود. وهو ما فتح الباب في إطار الصراع السوري مع الإدارة الأميركية والفرنسية إلى تدخل مجلس الأمن واستصدار قرار يدين التمديد وحكم الوصاية ويرفضهما معا.

وعلى رغم رحيل الرئيس لحود في الموعد المحدد لانتهاء ولايته مازال الوضع الدستوري بالنسبة إلى شروط انتخاب رئيس الجمهورية هو العائق أمام أية تسوية سياسية للمعارضة والموالاة. وهو ما وضع لبنان في مرحلة جديدة من الصراع السياسي عنوانه الكبير هو الدستور سواء بصيغته الحالية أو بالاقتراحات المثارة لتعديله، أي: بكيفية تفسير الدستور وبوجه آخر بدستور لم يرضِ أطرافا معينة تسعى لتعديله. وهو ما يسبب أزمة كبيرى سيكون أمر حلها مستحيلا إذا لم يتم التوافق عليها من القوى والطوائف المتصارعة أصلا والتي خاضت حربا أهلية لتصل إلى اتفاق الطائف العام 1989. والمسألة برمتها تحمل وجهين. فهي سياسية بقدر ما هي دستورية وقانونية.

رفع الأيدي

ومن المرات النادرة في تاريخ سورية السياسي، والتي تم فيها انتقال السلطة بهدوء وسلاسة وبسرعة قياسية لم تحصل من قبلُ. كان ذلك عندما توفي الرئيس حافظ الأسد العام 2000. وفي الوقت الذي امتلأت شوارع دمشق بآلاف المعزين كانت المبايعة لنجله بشار تجري على أحسن ما يرام حين تم ترشيحه رسميا لرئاسة الجمهورية من قبل القيادة لحزب البعث، وترقيته إلى رتبة فريق، وتعينه قائدا عاما للجيش والقوات المسلحة. وفي ساعات التأم مجلس الشعب ونودي بالسيد بشار الأسد رئيسا بعد أن رفعت الأيدي بالموافقة. بلحظات خاطفة جرى كل شيء وبما في ذلك طبعا تعديل الدستور الذي يقضي بخفض سن الرئيس إلى 34 عاما. وأزيلت كل العوائق من أمامه من دون أن يعترض أحد أو يتحدث عن قدسية الدستور ومخاطر التعديل!

إلا الدستور

وخلال السنيتن الأخيرتين شهدت الكويت نقاشات وخلافات سياسية حادة بشأن تعديل الدستور. وطرح البعض شعار «إلا الدستور»، في إشارة إلى عدم الاقتراب منه أو المس به؛ نظرا إلى ما يشكله من قاعدة ثابتة للنظام القائم؛ وما يثيره من حساسيات مفرطة لدى الرأي العام عند سماعهم كلمة تعديل الدستور بعدما جرى وقف التعامل بإحدى مواده في حالات سابقة عطل فيها مجلس الأمة عن العمل لسنوات. ومنذ 45 عاما تقريبا لم تعدل فيه أية مادة من مواده وإن كان التعديل أكثر صعوبة وتعقيدا من تلك الإجراءات المتعارف عليها بتعديل القوانين. ولهذا اجتمعت القوى السياسية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2007 وأصدرت بيانا أثنت فيه على موقف الأمير المبدئي بهذا الخصوص، وطالبت بوجوب الالتزام والتمسك بالدستور وعدم جواز تعطيل أية مادة والتصدي لأية محاولة لتعطيله ووجوب تطبيقه وتفعيل مواده.

مقاس الحكام

ربما كانت حوادث باكستان الأخيرة أفضل تعبير عن حالات العبث بالدستور وتفصيله على مقاس الحكام، حين قرر الرئيس برويز مشرف ترشيح نفسه لمنصب الرئاسة علما ألا يحق بحسب الدستور المعمول به لمسئول عسكري أن يرشح نفسه لمنصب منتخب. وقوبل هذا القرار بالاحتجاج الغاضب والعنيف بعد أن أعلن حالة الطوارئ وفرض الأحكام العرفية في وجه معارضيه. إلا أنه قبل - تحت ضغط المعارضة والاستياء الدولي - التخلي عن منصبه العسكري؛ لضمان ترشيح نفسه للرئاسة. واعتبرت زعيمة حزب الشعب والمعارضة القومية بينظير بوتو - التي اغتيلت في أجواء أعمال العنف التي سادت باكستان - ما أقدم عليه مشرف انقلابا فعليا على الدستور، معرضا مستقبل بلاده للخطر والمجهول. وكل ذلك في سبيل الاستئثار بالسلطة والحكم. يساعده على ذلك قدرته على تعديل ما يراه مناسبا من موادَّ في الدستور الذي يمنحه صلاحيات أكبر ورقابة أقل وحكما عسكريا مطلقا.

الفراغ الدستوري يماثل في خطورته اللعب بالدستور وتفصيله بحسب المقاس. وهذا ما يمكن قراءته في التاريخ الإسلامي حسبما أشار إليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري من أن إذا أردنا أن نستخلص الدروس السياسية من حوادث «الفتنة الكبرى» وبالسنوات الست الأخيرة من عهد عثمان بن عفان وفإن ما حدث كان تعبيرا عن فراغ دستوري كبير في نظام الحكم قام بعد وفاة النبي (ص).

اللهم أبعد عنا مشكلات الفراغ الدستوري وتفصيله بحسب المقاس والعبث به.

العدد 1954 - الجمعة 11 يناير 2008م الموافق 02 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً