العدد 1953 - الخميس 10 يناير 2008م الموافق 01 محرم 1429هـ

إشكال المصطلح واختلاط المفهوم

الحركات الإسلامية والفكر المعاصر (7)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تلعب أحيانا مسألة اختلاط المفاهيم دورها في تقرير الكثير من المواقف الفكرية وربما تؤدي إلى سجالات أيديولوجية لا تنتهي، في وقت تكون الآراء متقاربة.

يمكن أن نلحظ ذاك الاختلاط على غير مستوى، وأحيانا يلعب المفرد أو المصطلح (الكلمة) دوره في إحداث التشويش بسبب عدم انسجام بنية اللغة مع بنية العقل، ويكفي تدوير المصطلح أو مقارنته بما يقابله من مفرد في اللغة حتى يزول اللبس.

أكثر ما نجد الاختلاط المذكور في فكرة الديمقراطية (كأسلوب عمل ومنهج علاقات) حين يتم تناولها كمفهوم تتداخل فيه مسائل الفقه والحكم والتشريع والليبرالية والعلمانية والتغريب والغرب. فالبعض يتناول فكرة الديمقراطية ويخلطها من دون وعي منه بقضايا أخرى لا علاقة لها بها مثل الليبرالية والدولة والعلمانية أو الفقه. وهناك من يرى الديمقراطية وسيلة من أدوات السيطرة الأجنبية وهي «جهاز واعٍ» لمصالحه غير منفصل عن سلسلة حلقات من المفاهيم المترابطة تبدأ بالاختيار الحر وتنتهي بتدخل الدولة في شئون المجتمع وحرية الفرد ومعتقداته فتقوم عن طريق الإكراه «الديمقراطي» بفرض قناعات يرى أنها غير شرعية ومشروعة ولا تنسجم مع دينه.

إلى الخلط الفكري بين الديمقراطية كآلية تنظيم الخلافات وبين المفاهيم الأيديولوجية المتعلقة بالعلمانية والليبرالية، يلاحظ أيضا الالتباس نفسه بين فكرة الديمقراطية ونظام الحكم وتشريعاته. لكن يمكن ملاحظة مسألة ذات شأن وهي أن النقد العنيف الذي نجده عند مختلف التنظيمات الإسلامية في مقارعة التغريب والعلمانية والإلحاد وغيرها لا نجده بالحدة نفسها عند مناقشتها فكرة الديمقراطية، وكأن هناك ما يشبه الاتفاق على قبولها كمضمون لا كمفرد أو مصطلح وعلى شرط ألا تتعرض لمعتقدات الفرد الإيمانية. فالفكرة مقبولة بشروط وضوابط مثلها مثل الاشتراكية فهي مرفوضة كمفرد ومصطلح ومقبولة إذا كانت تعني العدل والعدالة والمساواة بين البشر. بينما نجد غيرها من المفردات مرفوضة شكلا ومضمونا (مفردا ومحتوى) كالعلمانية والتغريب مثلا. كذلك نجد الخلط نفسه بين التحديث كضرورة تاريخية وحاجة بشرية والحداثة كمنظور قيمي للأفراد وكنظرة إلى الحياة والفن. مع ذلك يمكن تلمس ما يشبه التمييز بين التحديث بمعنى الإصلاح والتجديد وبين الحداثة كقطع مع القديم والماضي، فالأول مقبول والثاني مرفوض.

على هذا الأساس يمكن قراءة الكثير من المتشابهات والمتقابلات بين التراث والحداثة في سياق متناقض بين خطين: الأول يقبل بها لأنها أساسا موجودة في التراث وهناك ما يقابلها في تجارب الماضي، والثاني يرفضها لأنها غير موجودة وما هو موجود لا ينسجم مع المعروض.

لاشك في أن الخلاف النظري القائم بين الاتجاهين ليس جديدا بل هو يستمد عناصره من الماضي والتراث أيضا، إذ نجد الكثير من الحالات المشابهة في السجال بين أهل الحديث وأهل التحديث وبين من يريد التوفيق بينهما. ونجد أيضا السجال نفسه في عصرنا بين أهل الإصلاح وأهل السلف وبين من يريد التوفيق بينهما بذريعة أن الشرع لا يعترض على التجديد، والإصلاح لا يتناقض مع السلف إذا أخذنا شروط اختلاف المكان والزمان في الاعتبار وهو ما يسميه الشيخ راشد الغنوشي اختلاف البيئات».

يبقى الخلط عند بعض الإسلاميين بين الديمقراطية كآلة تنظيم العلاقات والخلافات سلميا وبين مفاهيم الليبرالية والعلمانية وغيرها أهون بكثير من أخطر خلط قد يحصل في التفكير الإسلامي، وهو ذاك القائم بين الحكم الإلهي والحكم بما أنزله الله على البشر. فهناك من لا يقدر المسافة بين المسألتين ويعتبرهما مسألة واحدة، ويلاحظ أنهما تختلفان في درجات.

أحيانا لا نجد هذا التمييز بين الحكم لله وبين الحكم بما أنزله الله. فهناك بعض الاجتهادات التنظيمية لا يقيم مسافة بين الحكم والحكام ويعتبر أن الحكم بما أنزله الله هو نفسه حكم الله، متجاهلا تلك القناة الفاصلة بين الله عز وجل وبين أدوات التنفيذ وهم البشر. وتجاهل الفارق عند بعض الفصائل الإسلامية بين المستويين يثير التباسات عدة ويدفع به إلى رفض كل أشكال الحوار مع المختلف والآخر حتى لو كان من المسلمين المؤمنين المتعبدين.

هناك من الإسلاميين من يقيم مسافة بين إيمانه ومستوى تعبده وبين غيره من الناس (مسلمين وغير مسلمين) الذين يندرجون في تقواهم ويتفاوتون في مستويات التزامهم بالمنهج الإسلامي في حياتهم اليومية. وهناك من الإسلاميين من يلغي المسافة بينه وبين غيره ويفترض نظريا أن التقوى والالتزام والتعبد هي على درجة واحدة ويجب أن يتساوى الناس في مدى تلبيتهم لشروط الشرع في حياتهم اليومية.

يعكس الاختلاف المذكور بين الإسلاميين، في فهم الشريعة ومناهج تطبيقها، نفسه على مستوى السياسة فيقبل الفريق الأول الحوار مع الآخر المختلف، بينما يرفض الفريق الثاني الحوار ويكفر الآخر ويدعو إلى هجرته حاكما أو محكوما بذريعة أنه ينتمي إلى الجاهلية ويشرك ما أنزله الله بما صنعه البشر. ويمكن ملاحظة هذه المسألة أكثر ما يكون في حوارات الإسلاميين ضد بعضهم وخصوصا عند تناولهم موضوعات التعددية والحزبية والبرلمانية والائتلاف مع الأحزاب والمنظمات المختلفة أيديولوجيا وفكريا.

في مقال تحت عنوان «دروس من تجربة الحركة الإسلامية» نشرته مجلة «الإنسان» الصادرة في فرنسا، يأتي الشيخ راشد الغنوشي على تناقض الإسلاميين فيذكر «أن الإسلامي بصفة عامة واقع في مفارقة عجيبة، فهو من ناحية ضحية القمع والاقصاء العلماني ولذلك فهو يطالب بالحرية وقد يعتمد حتى على مبادئ حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية في الضغط على الحكام المستبدين، ولكن كأني به هو الآخر يحمل عقلية إقصائية لخصومه أو هو يخشى تلك الحرية التي يطالب بها ولذلك بمجرد أن يظفر بها حتى يخنقها ويضيق نطاقها». ويتابع رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية «حتى لترى كثيرا من الإسلاميين كأنهم لا يشعرون بالتناقض بين مطالبتهم الأنظمة العلمانية بأن تعترف لهم بحق العمل الحزبي وحريات التعبير والتنافس على السلطة بينما هم لا تقر كتبهم بتلك الحقوق لمواطنيهم العلمانيين». (العدد التاسع، ديسمبر/ كانون الأول 1992).

ويصف الشيخ الغنوشي ذاك الموقف بـ «لا أخلاقي. كيف أطالب العلمانيين بحق أحرمهم منه لحظة التمكن؟». وعلى الأساس المذكور يطالب باستحداث «ثقافة إسلامية جديدة تستوعب ثقافة العصر» لأن الدعوة حتى تنجح في بيئة جديدة «لا مناص من تفاعلها مع ظروف تلك البيئة». ويحدد شروط نجاح الثقافة الجديدة بنقاط عدة أبرزها «أولوية الحرية على الإكراه» و «المنهج السلمي الديمقراطي» لأن التقدم البطيء «الذي تحققه أساليب العمل السلمي كثيرا ما فاقت جدواها المغامرات». ويرفض الاستراتيجيات المتناقضة داخل التنظيم الواحد والدمج بين «استراتيجية التغيير السلمي والتغيير العنيف»، ويؤكد أخيرا على الحوار في مختلف أشكاله والتداول السلمي على السلطة وتنظيم الأمة في مؤسسات شعبية قوية تدار بالشورى. (مجلة «الإنسان»، العدد التاسع، السنة الثانية، ديسمبر 1992).

يمكن أن نقلب كلام الشيخ الغنوشي الصارم في نقده لعقلية الحركات الإسلامية ونسأل: أليس من العيوب أن ترفض الأحزاب التي تسمي نفسها «ديمقراطية» و «علمانية» و «ليبرالية» وغيرها أن يرخص للأحزاب المختلفة معها أيديولوجيا؟

يفتح نقد الشيخ الغنوشي الذاتي والقاسي النقاش عن موضوع الديمقراطية على مستوى مختلف. لذلك حتى تكون القراءة موضوعية ومتوازنة لكيفية تداول الحركات الإسلامية فكرة الديمقراطية واختلاف مواقفها منها لابد من وضع التصورات المتعاكسة في سياق زمني لا أيديولوجي وإلا ضاعت الفكرة في متاهات نصوصية لا تفيدنا، ولا نستطيع أن نصل معها إلى نتيجة منطقية. فالنصوص المنقولة تحاول ترجمة المعطى النهائي وتحويله إلى نموذج خالص يمكن تركيبه نظريا على الأوراق وطباعته في الكتب، لكن من الصعب تطبيقه على الواقع المغاير. وإسقاط العملية التاريخية وطرد النزعة التجريبية من فكرة الديمقراطية وتطورها الزمني وتقدمها من محطة إلى أخرى يعطل علينا فهم الحركات الإسلامية وقراءة مواقفها من الكثير من المسائل وخصوصا المسألة الديمقراطية. فالحركات الإسلامية ليست متفقة على الفكرة على رغم اتفاقها على موضوعة الحرية واحترام الآخر، بسبب إشكالية المفرد أو المصطلح. والحركات الإسلامية ليست معادية للفكرة على رغم أن بعضها يتجنب الإشارة إلى الموضوع الديمقراطي لا بسبب رفض الفكرة بل بسبب اقتناعه بوجود ما يقابلها في موروثنا التاريخي (النصوص والتجارب والشواهد). كذلك لا تجتمع الحركات الإسلامية على برنامج أولويات موحد، بل هي مختلفة ومتعددة في برامجها وأساليب عملها، فهناك من يرفض اللجوء إلى التصويت ولا يقبل بالانتخاب كأسلوب سلمي للاختيار والمفاضلة، وهناك من يقر التصويت ويقبل بالانتخاب كأسلوب للتداول والاختيار والمفاضلة، وهناك من يعتمد العنف وهناك من يرفضه، وهناك من يرفض الدولة بداعي جاهليتها وهناك من يقبل بها، وهناك من يرفض المجتمع بذريعة جاهليته، وهناك من يتعاطى معه ويؤكد ضرورة استخدام أساليب التوعية والتربية الطويلة النفس.

يحاول علي كريم سعيد في كتابه «أصول الضعف، دراسة في الميل العربي المشترك»، أن يفسر المسألة بالقول: «رغم أن المسلمين متفقون على مبدأ اختيار حكامهم بالبيعة، لكنهم لم يضعوا لها شكلا محددا. وقد تفنن المسيطرون عبر التاريخ في أساليب انتزاع البيعة وأخذها». ويرى أن رفض بعض الإسلاميين مصطلح الديمقراطية كشكل ومحتوى ومقابلتهم له بالشورى سياسيا «فيه دقة كبيرة ومنطق عملي» لأسباب ثلاثة عددها الباحث كالآتي: أولا، أن الديمقراطية هي مصطلح (كلمة) يمكن أن يوضع لها تعريف إجرائي يحدد الشكل والمحتوى الذي نرغب فيه، أو يرغب فيه هذا الطرف أو ذاك. ثانيا، لم يدَّعِ فلاسفة الديمقراطية أو الليبرالية الغربية أن مفهوم الديمقراطية الذي ينادون به، وتمارسه دولهم يوفر نظاما كاملا ومتكاملا، تام الفاعلية في تحقيق الحرية الإنسانية والعدالة والمساواة، بل هم يقرون بأن الممارسة والنظرية الديمقراطية في الغرب ناقصة وأدنى بكثير مما يروم الإنسان تحقيقه لنفسه. ثالثا، ان الشورى كمفهوم سياسي إسلامي أو لغوي، مازال وعاء شبه فارغ، أو لنقل غير ممتلئ. ويقترح علي كريم سعيد أن «يجري تحقيق الديمقراطية عن طريق عدم إملائها بمحتوى وتعريف، وإنما بتقديمها كإطار فارغ من المحتوى، وعند ممارسة حق الانتخاب داخل الإطار (الوعاء) سيمتلئ هذا الإطار ويتنوع بالآراء والمواقف المختلفة...». (دمشق، دار النشر وتاريخ الطباعة غير محددتين، صفحات 154، 155، 182، 184، 187).

ويصل في صفحة 180 إلى نتيجة وضعها في الهامش تقول: «في ظل غياب طريقة محددة للشورى فإن المسلمين يمكنهم تأسيس شكل سياسي يكون نابعا من الشعب ويسود فيه البرنامج الذي تصوت عليه الأكثرية، وذلك سيوفر الحافز - الميكانزم - التنافسي بين فئات الشعب المتنافسة لاختيار قائد ديني - ثم لاختيار مجلس شورى شعبي - يترك له حق انتخاب رئيس للدولة أو يتم انتخابه من الشعب مباشرة». (علي سعيد كريم، أصول الضعف - دراسة في الميل العربي المشترك، دمشق، دار النشر وتاريخ الطباعة غير محددين). فالمسألة إذا مسألة مصطلحات ومفردات وتنتهي الإشكالية إذا استبدلت الكلمة بكلمة وأعطيت مضامين مختلفة ومتكيفة مع واقع الناس ومناخهم.

في حوار طويل أجراه محمد عبدالجبار مع السيد محمد حسين فضل الله وصدر في كتاب بعنوان «المشروع الحضاري الإسلامي» أبدى العلامة فضل الله تحفظه على المفرد - المصطلح وذكر أنه عندما يتحدث عن الديمقراطية يقصد «ضد الاستبداد» أي «أننا مع الديمقراطية بمعنى أننا ضد الاستبداد، لكننا لا نستطيع أن نلتزم بكل نتائجها على مستوى القضايا الإسلامية». ويضيف في مكان آخر: «إننا كإسلاميين لا نعتبر أن الديمقراطية هي الخط الذي يعطي الشرعية للقضايا المطروحة في حياة الناس ولاسيما إذا كانت هذه القضايا تتصل بالتشريع، لأننا نعتبر أن الناس لا دخل لهم في مسألة التشريع...». السيد فضل الله لا يرفض الديمقراطية كمفهوم يعزز الحرية ضد الاستبداد، لكنه يرفضها إذا تجاوزت حدها وأخذت تتدخل بمعتقدات الفرد وإيمانه وقضايا التشريع الديني. فالسيد فضل الله يريد أن يضبط فكرة الديمقراطية في إطار مفهومي ويقنن حدود تدخلها، فهو يقبلها كإطار لتنظيم الخلافات السياسية بين الناس ويرفضها إذا تحولت إلى أداة تدخل في شئون الناس الاعتقادية. (محمد عبدالجبار، المشروع الحضاري الإسلامي - حوار مع السيد محمد حسين فضل الله، مؤسسة العارف، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، ص 125 و126).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1953 - الخميس 10 يناير 2008م الموافق 01 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً