وصل أمس الرئيس الأميركي جورج بوش إلى «إسرائيل» في إطار جولته في «الشرق الأوسط». وقبل أن تنتهي الجولة بادرت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى التقليل من نتائج التوقعات ورأت أن اللقاءات والاجتماعات لن يكون بمقدورها التوصل إلى تفاهمات نهائية بشأن الملفات الساخنة.
تصريح رايس صحيح لأنه يحاول مقاربة تعقيدات الواقع وعدم تضخيم الأوهام إدراكا منها بأن المبالغة في قراءة الاحتمالات ربما تؤدي إلى مزيد من التوتير ورفع نسبة اليأس من سياسة أميركية غير قادرة على التكيف مع المتغيرات وما تحمله من حقائق ميدانية.
اكتشاف رايس المتأخر ليس جديدا على أبناء المنطقة. فالدول والشعوب والفعاليات سارعت قبل بدء جولة بوش إلى إعلان رغبتها في وجود رؤية خلاقة تريد واشنطن اختبارها في المنطقة. ولكن المعلومات والتصريحات التي سبقت بدء الزيارة كشفت عن أن واشنطن لاتزال تعيش في «الماضي» وهي باتت في وضع لا يسمح لها بالانسلاخ عنه. وهذا النوع من التخدير السياسي الذي يمنع واشنطن من الانتقال من طور تَكرار مواقف صدئة إلى طور التجديد وجه ضربة استباقية لكل التوقعات التي راهنت على احتمال وجود توجهات جديدة في إدارة تعيش اللحظات الأخيرة من عمرها.
تخفيف رايس من نسبة التوقعات يؤكد من جديد أن جولة بوش «الأخيرة والحاسمة» قد تكون وداعية وستنتهي من حيث بدأت لأن واشنطن ليست جاهزة بعد لإعلان التغيير. فالإدارة غير مستعدة لتعديل ذاك الخطاب السمج عن «العلاقات الخاصة والمميزة مع تل أبيب». وهي غير واعية لأهمية الاعتراف بوجود متحولات لابد من الانتباه إليها تمهيدا لإدارجها في القراءة الأميركية التقليدية لتاريخ المنطقة وموقعها الجغرافي ودورها الاقتصادي في التوازن الاستراتيجي.
المنطق الذي بدأ بوش على أساسه زيارته أمس لـ «إسرائيل» هزيل في رؤيته السياسية ويفتقد ذاك التماسك المطلوب عقلانيا لتسهيل تمريره على دول المنطقة وتسويقه للشعوب. فالمنطق باهت وغير خلاق ويحتاج إلى صدقية. وحين يفتقد المنطق ابتكارا سياسيا يتحول إلى مجرد وعاء فارغ لا يحتوي ذاك الجديد وهو مادة مطلوبة دائما لإحياء الأمل وتلوين الصور بالألوان الزاهية.
حتى هذا الطموح المتواضع لم يجتهد بوش في البحث عن آلياته حين قرر زيارة المنطقة والتجول في عواصمها. لذلك سارعت رايس إلى دعوة الناس إلى عدم توقع الكثير من الجولة.
لماذا إذا قرر الرئيس الأميركي زيارة منطقة «الشرق الأوسط» في السنة الأخيرة من ولايته؟ وما حساباته السياسية مادامت وزيرة خارجيته لا تعول عليها؟
يرجح أن يكون العامل الداخلي الدافعَ الأولَ للجولة. فالرئيس الذي يستعد للرحيل عن «البيت الأبيض» يحاول أن يرسل إشارات تطمين لحليفه الاستراتيجي بإعادة تأكيد ثوابتَ تقليديةٍ دأبت كل الإدارات على الالتزام بها. وتأكيد الثابت ربما يساعد الحزب الجمهوري على تحسين مواقعه في جولات انتخابية طوال العام 2008 لاختيار رئيس جديد للدولة.
العامل الداخلي غير معزول عن سياسة خارجية تركزت في عهد بوش على توليد صراعات واختلاق أزمات في «الشرق الأوسط الصغير والكبير». فعهد بوش «شرق أوسطي» بامتياز إذ اختزل نشاطه الدولي في دائرة جغرافية اعتبرها تشكل مركز ثقل في ترجيح كفة الولايات المتحدة في التوازن الدولي. وأدى تركيز النشاط الأميركي على دائرة «الشرق الأوسط» إلى خسارة واشنطن الكثير من المواقع الدولية (إفريقيا وأميركا اللاتينية) وأتاح فرصة لدول آسيا النامية (الصين) وروسيا بوتين لتجديد نشاطها والتقدم في كونها أطرافا منافسة في إطار لعبة الأمم.
مشكلة بوش الآن أنه خسر نصف العالم ولم يكسب «الشرق الأوسط» لا الكبير ولا الصغير. وهذا يعني في حاصل الحسابات الدولية أن الولايات المتحدة تراجعت كثيرا في عهده عما كانت عليه في فترة الرئيس السابق بيل كلينتون. ومشكلة بوش الثانية أنه أيضا فشل في احتواء أزمات «الشرق الأوسط» الممتدة من باكستان إلى السودان. فالاضطراب السياسي تضاعف ولم يتقلص. العنف انتشر ولم يتحاصر كما وعد مرارا. الدول التي استولى عليها عنوة أصبحت في وضع أسوأ من السابق. الدول التي ادعى أنه يريد حمايتها أصبحت عرضة للمخاطر الأمنية وتهديدات «الإرهاب» أكثر من السابق. والنماذج المتطورة التي بشّر شعوب المنطقة بتأسيسها تحولت إلى نسخ مكروهة وغير مرغوبة.
بين التأثير والتغيير
هذه المحصلة العامة التي تجمعت روافدها من كل حدب وصوب انصبت كلها في مجرى الانتخابات الرئاسية التي بدأت إطاراتها التحرك ميدانيا منذ أسبوعين. وبوش كما يبدو أراد من جولته «الشرق الأوسطية» إعادة تأكيد دور أميركي لايزال يتمتع بصدقية ويملك قدرات على التأثير. وهذه أيضا مشكلة ثالثة.
إمكانات واشنطن على التأثير موجودة. وهناك شبه إجماع بين زعماء دول المنطقة على أن الولايات المتحدة لاتزال اللاعب الأول والمايسترو الذي يدير الفرقة الدولية. فأميركا أقوى من الاتحاد الأوروبي وهي تأتي في المقام الأول من ناحية التأثير قياسا بروسيا الاتحادية والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا حتى الأمم المتحدة. ولكن القدرة على التأثير شيء وإمكان التغيير شيء آخر. الضعف الأميركي يكمن في عدم استطاعة الولايات المتحدة التغيير. والعائق الأساس الذي يعطل حركتها وحرية خياراتها كان ولايزال «إسرائيل». فهذه الدولة تشكل فعلا ذاك الثقل الايديولوجي الذي يزعزع استقرار الاستراتيجية الاميركية في المنطقة ويردع رؤساء الولايات المتحدة عن كسر الاحتكار وابتكار آليات جديدة تساعد على شق طريق متوازن في منطقة شديدة التعقيد في تعرجاتها السياسية.
التحالف الاستراتيجي البليد الذهن والثقيل الدم بين واشنطن وتل أبيب يعطل كثيرا إمكانات التحول ويمنع نشوء قراءة نقدية لسياسة منحازة اتخذت لأسباب انتخابية في مطلع خمسينيات القرن الماضي وتحولت إلى ثابت «ايديولوجي» يضغط سلبا على مواصفات برغماتية عرفت بها الولايات المتحدة في علاقاتها الدولية وسلوكها الخارجي. أميركا برغماتية في كل الكرة الأرضية سوى «الشرق الأوسط» فهي في هذه المنطقة اختارت «الايديولوجيا» وسيلة وحيدة للقراءة أو التفاهم أو الانحياز أو العدوان.
رايس كما يبدو التقطت هذه المفارقة متأخرة ودعمها في هذا التوجه البرغماتي وزير الدفاع روبرت غيتس. إلا أن الثنائي رايس - غيتس (المدرسة الواقعية) اكتشف بدوره أن إمكانات التغيير مستحيلة؛ لذلك قللت وزيرة الخارجية في تصريحها أمس من التوقعات. فهي أصبحت مدركة أن تأثير الولايات المتحدة موجود ولكن إدارة واشنطن غير قادرة على استخدامه وإعادة توظيفه لتسجيل الاختراق المطلوب.
الاختراق إذا غير متوقع في جولة بوش. فالزيارات أجريت لحسابات انتخابية صغيرة ومرهونة بالعامل الداخلي. ورايس باتت على قناعة بأن أقصى طموحها الاحتفاظ بما هو موجود وعدم المبالغة في تزيين الوعود. والسبب وهذا ما لا تقوله رايس هو ذاك التحالف الايديولوجي مع تل أبيب الذي يلعب دوره في إضعاف الذاكرة وعدم تنشيط الذهن لتوليد آليات مبتكرة تساعد الإدارة على إنجاز الاختراق في السنة الأخيرة من عهد بوش.
الجولة فاشلة أو على الأقل نزهة وداعية لمنطقة اعتقد بوش أنها سهلة ومن الممكن كسرها وتحطيمها ثم إعادة إنتاجها وتشكيلها. نجح بوش في جانب التقويض وتقطيع الأوصال ولكنه فشل في جانب إعادة الرسم والترسيم في صورة «نموذج» أراد تصديره إلى المنطقة.
المنطقة الآن تعيش حالات فوضى وتتخوف من احتمالات انتشار سياسة التقويض فيها. وبوش الايديولوجي الذي لايزال يراهن على تأسيس معادلة تقوم على ثنائية «الاعتدال» و «التطرف» يتمسك بقناعة تبدو غير مطلوبة وغير مرغوب فيها لدول «الشرق الأوسط» وشعوبها. وهذه أيضا تعتبر مشكلة رابعة في استراتيجية الإدارة الأميركية. فالإدارة تريد تربيع الدائرة والإيحاء للدول العربية (الخليجية تحديدا) أن «إسرائيل» معتدلة وإيران متطرفة وعلى «الشرق الأوسط» تدوير مصالحه باتجاه البوصلة «الإسرائيلية». وهذه النقطة تعتبر من أرخص السلع في البضاعة الأميركية وخصوصا حين تعتمد ايديولوجية باهتة مضى عليها الزمن لتصنيع موادِّ غير جاهزة للتصدير.
«إسرائيل» دولة معتدلة وإيران دولة متطرفة وعلى الدول العربية القبول بهذه القناعة الايديولوجية الأميركية لتأسيس معسكرات جديدة تستنزف طاقات المنطقة ومواردها هي آخر النماذج الغبية التي يتطلع بوش إلى ترويجها في دائرة خليجية باتت مدركة لمنطق الصراع وتوازن المصالح وموقع «الشرق الأوسط» الاستراتيجي في لعبة الأمم. فكرة بوش عن التطرف والاعتدال تحتاج إلى تعديل أو تغيير وهي أصلا غير مقبولة وردت عليها دول الخليج العربية بإشارات واتصالات ولقاءات كانت كافية لتوضيح معالم الصورة والمواقع قبل بدء الجولة. وربما يكون هذا السبب أيضا شكل ذاك الدافع الذي أملى على رايس إطلاق تصريحها بشأن عدم توقع نتائجَ باهرةٍ من جولة يرجح أن تكون عادية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1952 - الأربعاء 09 يناير 2008م الموافق 30 ذي الحجة 1428هـ