الحاج محسن بداو العاشق الذي لم يطق الحياة أكثر من عام واحد فقط بعد رحيل معشوقه الشيخ الجمري، فكان ديسمبر/ كانون الأول 2006 موعدا لرحيل الأول، وديسمبر 2007 موعدا آخر لرحيل الثاني، وأحسبه لقاء ساخنا بين الرجلين بعيداَ عن لحظات العيون، وخطرات الظنون أيضا.
بداو من القلائل الذين لا تستطيع الذاكرة إلا أن تحفر صورهم، وتستنشق رحيق ذكرياتهم بين الحين والآخر، فعقد التسعينيات الذي يحتفظ في سجله بصور عدة للشيخ الجمري ومواقفه، وحركته المطلبية، لا تكاد تطوي صفحة من صفحاتِ ذلك السجل إلا وصورة الحاج محسن بداو تتنقل معك بين تلك الصفحات، صفحة تلو الأخرى.
تعلّق بداو الملحوظ بالشيخ الجمري، الذي كبر معه ورحل معه كان حديث الناس في تلك الأيام، فما من اعتصام، أو مسيرة، أو إضراب إلا وكان فيه صولات وجولات لهذا الرجل الطاعن في سنّه الشاب بروحه الطرية الغضة.
كثير من الابتسامات التي كانت ترتسم على شفتي أبي جميل لتزيح عنه الهم والغم كان الفضل فيها إلى بداو، إذ كان مرحا على الدوام يدخل السرور على القلب طالما اعتصر ألما، من شدة ما شرب من كؤوس مرة بسبب حركته المطلبية التي قادها ببسالة وشموخ خدمة للناس، ولو كان الشيخ الجمري على قيد الحياة وسمع برحيل بداو لجادت عيناه بدموع لا تقل عن الدموع التي سكبها بداو عندما سمع برحيل الشيخ الجمري قبل سنة من الآن.
أطرف ما كان يتداول عن بداو صياد السمك وبائعه في سوق جدحفص أنه كان يخترق الحصار الذي فرض على الشيخ في حقبة قانون أمن الدولة البائد من أجل أن يصل بشيء من السمك إلى الشيخ! هكذا أراد بداو أن يعبّر لمعشوقه على مدى عشقه له، فكان يخترق صفوف الأمن حاملا معه كيسا من السمك، غير مكترث بكل المحيطين بمنزل الشيخ من قوات أمنية، حتى يصل بالكيس ولك أن تتصور مشاعر الشيخ وهو يقبل هدية هذا الرجل الطاعن في سنه، في مثل تلك الظروف القاسية السوداء.
هذه القامة الطويلة التي كانت تلوح من بعيد في كل محفل من المحافل التي يقودها الشيخ الجمري، كان يفوح منها عبق الانتفاضة التسعينية، هذه القامة الطويلة كانت شامخة لم تنحنِ إلا للموت وكأن لصاحبها موعدا مع من يحب، فلم تستطع صبرا على فراقه فكانت سنة واحدة فقط ورحل بداو، ومن الحب ما قتل!
إقرأ أيضا لـ "عقيل ميرزا"العدد 1949 - الأحد 06 يناير 2008م الموافق 27 ذي الحجة 1428هـ