أعترف بأنّ انطباعي العام هو أنني قلّما أجد في البحرين مؤتمرا أو منتدى أو ندوة تهتم في بلورة خطوط واضحة لطرح المحاورأو تنجح في تنظيم مستوى راق من النقاش والتحاورالعام، لكني مع ذلك اعترف أنني قد وجدت مثل هكذا اهتمام ونجاح في أحد المؤتمرات الدينية التي تشرّفت بتلبية دعوتها للمشاركة في ذلك المؤتمر، كما وأعترف بأني كنت قد اجتهدت حينها قدرالإمكان للحضور في تلك الفعالية والابتعاد عن ما يتلقفني من انشغالات الدنيا ومزاحمها!
وعلى رغم كلّ ذلك فإنني أعترف أيضا بأنني ومنذ أنْ تلقيت الدعوة هاتفيا وقد جاشت بداخلي الكثير من الانطباعات والعواطف السلبية المحبطة والتهكمية السوداء على حساب شذرات الأمل وجزئيات التفاؤل اللامعة من جدوى «مؤتمر» و»منتدى» و»لقاء» و»قمة» وغيرها من مسميات فضفاضة وشاهقة، ولربما كان لمثل تلك التشاؤمية السوداء العميقة أنْ تطغى وتستكبر بداخلي تجاه تلك المؤتمرات هي بعدما خضت تجربة أعترف أيضا أنها كانت سلبية للغاية رغم تواضعها زمنيا ونسبيا!
ففي تلك المؤتمرات عادة ما يجتمع المشاركون في قاعة واسعة ومبهرة ويتبادلون فيما بينهم أنخاب المثل والأمثلة والتمثلات الوحدوية الجامعة وكأنما تحفهم الملائكة بأجنحتها في أعلى سقوف القاعة «المباركة»، ولكنهم وما أنْ يخرجوا من «قاعة الملائكة» حتى تحتفي بهم شياطين الردهات والغرف المغلقة وتستفز فحولتهم الطائفية وخصوبة لهيبهم الجماعي، فيسخو كلّ على أخيه في المؤتمر برغاء «العقرات» السياسية والثقافية والاجتماعية والطبقية ذات السن والحد والشوكة الطائفية الخادرة!
وما أنْ يُغادر إخوة المؤتمر القاعات والردهات معا فيلتقون عند بوابات الدخول والمغادرة حتى يسرفوا ويسفوا في مجاملة بعضهم بعضا إلى أقصى حد، وكأني بهم يتبادلون أدوارولقطات «عرفات» و»باراك» و»كلينتون» المشهورة عند أحد مؤتمرات السلام المزعوم والصلح الملغوم!
وعن مشاهداتي الأخرى في المشاركة بأحد مؤتمرات «الوحدة» و»المحبّة» و»السلام» و»الاعتصام بحبل الله» أذكر أحد المواقف بعدما ألقى فيها أحد الإخوة المجتهدين الأعزاء خطابا وحدويا رائعا وبليغا أبكى وأذهل الحضورونال تصفيقهم واستحسانهم فوجئنا بأحد الإخوة مما اخضلت عيناه بالدموع وهو يقول للخطيب: «للأسف ستذهب كلّ هذه الوسامة والذكاء وخفة الدم والصراحة والشجاعة وقوّة الطرح، ستذهب جميعها إلى جهنم في النهاية»!
كما أنني أذكر وخلال مشاركتنا في إحدى حلقات النقاش عن الطائفية وخطرها بأحد المؤتمرات وبعدما انهمك المناقشون في الكلام والثرثرة واللغو قاموا على الفور بتعويض هذا الانهماك بانهماك آخرعلى تناول قطع بسكويت الزبدة والشوكلاتة الهشة واللذيذة وكرعوا ما كرعوا و»جحلوا» ما «جحلوا» من المشروبات الغازية عدا أخ واحد لم يكن له نصيب من تلك الثرثرة وذلك الالتهام والكرع و»الجحل»، وبعد أن عتب عليه الجميع اعترف لهم بأنه صائم، ففوجئنا حينها ببعض الإخوة يقولون له «كل واشرب واهنأ ودع عنك الجوع والعطش، فأنتم للأسف تعملون ونحن في النهاية سنذهب إلى الجنة!» فردّ عليه أخونا الصائم بمنتهى الحكمة والطرافة «على الأقل سيذهب بعضنا إلى الجنة، وهذا أفضل في النهاية من أنْ نكون جميعا أحطاب جهنم»!
وأعترف أيضا بأنه قد يجول في سريرتي، وأنا أكتب هذه الكلمات، شيء من الحدس بأن هناك إخوة قرّاء وطائفيين أعزاء يتساءلون بحزم عن الهوية والانتماء الطائفي لشخوص هذه الذكريات المسرودة والمتورطين بأحداثها «إن شاء الله ليسوا من جماعتنا» أو «ربما هم من جماعتهم»!
ولكن وعلى رغم كل تلك الحصيلة المحبطة من المشاركة في «المؤتمرات» و»اللقاءات» و»المنتديات» الوحدوية أعترف أيضا بأنّ مشاركتي وحضوري إلى جلسات ما أشرتُ اليه من مؤتمر لربما كان الأفضل بالنسبة لي والأكثر مدعاة للتفاؤل، فالإخوة الأفاضل في ذلك المؤتمر بذلوا جهدهم الكريم ودعوا مَنْ دعوا من مشاركين أثروا المؤتمر بحواراتهم ونقاشاتهم المتعددة بعدما أتوا من مختلف الأقطار شرقا وغربا، ولا أرى أنه من المناسب والعملي والمنطقي المجدي أن ينشغل إخوة لنا بتأويل لاحصر له لنوايا و»أجندة» الإخوة منظمي ومعدي المؤتمر، وتأويل لامنازع له حول مبلغ الكلفة المالية والاقتصادية التي شملت إعداد وتنظيم هذا المؤتمر في إحدى فنادق الخمس النجوم، وحول مصدرهذا المال (هل هو حلال أم حرام؟! ما الذي يضمن لنا ذلك؟!) وهوية أصحابه (من هم؟! وما هي خلفياتهم؟! وما هي انتماءاتهم السياسية والحزبية؟! هل هم معارضة أو موالاة أو بين بين؟! وأي القوى المحلية والإقليمية التي تدعمهم؟!)، فلو تركنا عيارالتأويلات المتعددة للانفلات لما وصلنا في النهاية إلى أية نتيجة ولضاعت الدعوة المبدئية، وذهبت رسالة المؤتمر السامية التي ليس بمقدور عاقل أن يختلف عليها إلى غير رجعة وتولتها أدراج رياح الأهواء والأمزجة؛ لتقذفها في مهاوي وشقوق العقد والجروح التاريخية التي لم تلتئم بين أجزاء الجسد الواحد، وما أسرع أن تتحوّل التأويلات المبحوثة إلى افتراضات والافتراضات إلى مسلمات والمسلمات إلى عقائد والعقائد إلى قنابل وألغام!
وبالنسبة لي ولبعض الإخوة المشاركين فإنني أعترف مرة أخرى بأن هذه هي المرة الأولى التي ألبي فيها دعوة من الجمعية صاحبة المؤتمر، وهي أتت استجابة للرسالة والقناعة المبدئية بضرورة الوقوف العقلاني والعملي المجدي مع أية محاولة وحدوية وطنية أو محاولة للتحاور ضمن إطارالدين الواحد بين الإخوة بغض النظر عن أسئلة الهوية والماهية و»الأجندات» المرتبطة بهذه الجمعية التي أترك أمرها لمن هو أعلم وأخبر منّي أو لله تعالى!
وأذكر أنه ومن بعد الخروج من إحدى فعاليات المؤتمر أسرّ لي أحد الإخوة الأعزاء بإعجابه بما طرح من أوراق في المؤتمر ذات قيمة علمية وبحثية واجتهادية راقية إلا أنه عبّر عن ضيقه وتشككه من أنه إن كان مناسبا أنْ يتم تداول موضوعات غاية في الأهمية والمصيرية من قبل عدد محدود من الباحثين والمناقشين، فعبّرت له حينها عن اعتقادي بأنه قد تكون المحاولة الذهبية لطرح الموضوع لوحدها أكثرأهمية وعظمة من النتائج المترقبة من الطرح والقراءة والتأويل وتقديم الحل البديل، واستشهدت له مثال حادثة طبيعة هي سقوط التفاحة وكيف أفضت إلى اكتشاف قانون الجاذبية!
ومن بعد المراسم الاحتفالية المميزة بافتتاح هذا المؤتمر كان المحور الأوّل هو ما يتعلّق بـ»حديث الفرقة الناجية» وهو «ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة، وهي ما أنا عليه وأصحابي»، وقد قدم الورقة الأولى عن هذا المحور المفكّر المصري حسن حنفي تحت عنوان «حديث الفرقة الناجية بين تعدد الروايات والتوظيف السياسي في علم أصول الدين» ومن بعده الشيخ عبّاس النجار الذي قدم ورقة أخرى بعنوان «حديث الفرقة الناجية في الميزان» وورقة أخيرة في هذا المحور للشيخ خميس بن سعيد العدوي تحت عنوان «قراءة في رواية الفرقة الناجية».
وقد تلت تلك القراءات الثلاث المميزة عدّة مداخلات نقاشية من قبل الحضور، فكانت هنالك مداخلة للشيخ عبداللطيف المحمود الذي اعتبر بأنه مهما تكن جهود المنظرين تجاه تبيان حقيقة وشرعية هذا الحديث فإنّ هذا لا يهم لكون هذا الحديث النبوي متداولا ومأخوذا به شعبيا بكثرة، وقد نبّه إلى نقطة مهمّة عن الفرقة الناجية التي اعتبرأنّ التقوى والتقرّب إلى الله هو محددها!
وإنْ كانت مداخلة الشيخ المحمود معبّرة إلا أننا نرى بأن ما انطبق على القراءات الثلاث من تلقي متوقع قد ينطبق أيضا على هذه المداخلة والتي قد لا تهم كثرة من المتداولين والمتبادلين إهداء وتقاذفا لحديث «الفرقة الناجية» التي يعتبرها الكثير فرقته وجماعته، ويعمد إلى مضاهاتها بحجمه ومقاسه لكأنما هذا الحديث النبوي هو «حذاء سندريلا»، فالبعض يعتبر «الفرقة الناجية» الفرقة الموالية سياسيا، وآخرهي فرقة العلماء وطلابهم ونجوم الإسلامويين التي تتقرب من «الباغوان الأعظم» و»شيخ المحافظين الجدد - فرع البحرين» على أمل تحقيق التحزب والتطيّف السياسي والديني والاقتصادي الأمثل والأنجع في المجتمع، وهلم جرا من تأويل وفبركة واصطفاف!
وأذكرأنه كانت هناك مداخلة أخرى لأحد الحضورعبّر فيها عن أن تحديد الفرقة الناجية هو أمرواختصاص الله تعالى وحدَه، فلا ينبغي على الإخوة المسلمين الانشغال بتحديد أمرتلك الفرقة الناجية دون نهاية فيما يجب من العواقب السيئة والنهايات الكارثية ما ليس له من متوقع!
وبالنسبة لي فأعترف بأنني لكم تمنيتُ ألا تكون هنالك «فرقة ناجية» أساسا فهذا أيضا أفضل، إذ قد يكون هنالك جحيم واحد فقط بدلا من جحيمين في الدنيا والآخرة!
وإننا لنسأل الله ألا نكون من الفرقة السياسية الناجية التي تزعم أنّ بحوزتها «بزنس كارد النجاح والفلاح» في الدنيا والآخرة!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1949 - الأحد 06 يناير 2008م الموافق 27 ذي الحجة 1428هـ