لكيلا يعتقد القارئ المهتم بالشأن الثقافي بأن كل ما كتب أو ذكر في هذه الصفحة من العدد 1945 والصادر يوم الخميس 3 يناير/ كانون الثاني 2008 تحت عنوان «هيئة الثقافة والتراث الوطني» يمثل الرأي العام، كان لزاما عليّ أن أكتب حتى أبيّن أن علينا أن نسلّم بكل المغالطات الواردة في ذلك المقال وأن نطمئن لأن هناك من يدافع عنها جميعا.
لقد كثرت في الأشهر القليلة الماضية مقالات هي أقرب إلى أسلوب الخطابة التي لا يستطيع القارئ أن يخرج منها بقناعة معينة لأنها وإن كانت من أصحاب أقلام تنتسب إلى الثقافة (أو تثقيف الناس) فإنها كلها تلتقي في مشروع واحد وهو تشويه إنجازات الآخرين وتشكيك شامل في كل ما يقومون به واتهامات لم يرفقها أي كاتب بدليل نستطيع أن نصل إلى النتيجة المطلوبة من خلاله.
أنا ومثلي نتساءل: هل إذا تجرأ أحد منا وعبّر عن رأيه فسيكون - بحسب كاتب المقال السابق - في خانة «المخدوعين» و «المطبلين»؟ أوليست هذه التهمة بذاتها تحقيرا لعقول الناس ومدى إدراكهم وفهمهم واتهامهم بأنهم من «المنتفعين» أو الذين لا «يُجيدون العربية الفصحى»؟ كيف أكتب إذا وأنا متهم بكل هذه التهم؟ ما قيمة الكتابة إذا كان صاحب المقال يختم مقاله بالتهديد ووضع «الوزارة والقطاع والإقطاع والدولة» كلها في خانة واحدة؟ فهل الخلاف هنا مع كل هذه الأطراف على حين أن البداية كانت مع قطاع الثقافة فقط؟
عن أية استراتيجية يتحدث الكاتب، وأية كوادر؟ هل الاستراتيجية التي استطاع هذا القطاع من خلالها وضع اسم مملكة البحرين على قائمة التراث العالمي؟ أليس هذا القطاع المتهم بعدم التخطيط هو الذي استطاع بجهود كل العاملين فيه من مواطنين أحبّوا بلدهم وخبراءَ أجانبَ ليسوا مرتزقة «خلقوا من عدم ومن فشل واستغناء من قبل الدول المجاورة»؟ هؤلاء الخبراء بفضل جهودهم المشتركة والداعمة لجهود القطاع استطاع مرة أخرى هذا القطاع الوصول إلى لجنة التراث العالمي في «اليونسكو» متحديا البرازيل والصين وجمهورية مصر العربية بكل ما تحمل هذه الدول من إرث حضاري وتاريخ عريق وعلاقات عالمية أكبر من حجم مملكة البحرين!
هو القطاع نفسه الذي أقام عدة ورش عمل لتدريب العاملين على إدارة المواقع وجعل من الاستثمار في الثقافة هدفا رئيسيا للاستراتيجية التي هي معدومة في مقال الكاتب.
من هذا المشروع الحضاري تم إنجاز متحف قلعة البحرين على حين كانت في أعوام سابقة خرابة لا يَعرف الطريق إليها أحد وقريبا سيتم إنشاء المسرح الوطني ومتحف مسجد الخميس وموقع مستوطنة سار ومتحف الطفل ومتحف الفن الحديث. لماذا يخفي الكاتب هذه الإنجازات؟ ولماذا يخفي وكل الذين لم يكتبوا إلا من أجل الإثارة والتشكيك عن مؤتمر الآثار الذي حضره أكثر من 120 من المتخصصين في آثار البحرين وتاريخها وأخذوا معهم الفكرة الرائعة عن هذا الحدث الحضاري والإنجازات المهمة؟ أليس هذا أفضل لمملكة البحرين من مقالات الشك والريبة؟
أنا لستُ من العاملين في القطاع ولا من «المنتفعين» بل من المتطوعين في لجان كثيرة مع أناس مثلي أحبّوا هذا الوطن ويعملون بصمت من أجل أن يشار بكل تراثه وتاريخه في خطاب الحضارة، في اللغة الإنسانية المشتركة، في الثقافة.
لسنا في «يخت فخم»، لكل واحد أو واحدة منا مسئولياته الجمّة وشواغله الكثيرة، ولكن يجمعنا عكس الذي يجمعكم ويسكننا هاجس الرغبة في إنجاز أكثر على رغم كل التحديات.
خمسة وثلاثون عاما وأنا مع آثار البحرين وأعرف ما معنى تدمير الآثار، وأعرف أن صوتي وحدي لن يصل إلى أحد، كنت أتمنى أن يكون مقالكم دعوة صادقة لتضافر جهود المهتمين للقاءٍ نناقش من خلاله أفضل السبل لحماية الآثار وتفعيل قانون الآثار بدل أن تكون عن «صالون» و «بروشور» و «باقات الزهور»، ومع ذلك، هل من العيب أن يكون في متحف البحرين الوطني صالون لاستقبال رؤساء الدول وضيوف المملكة والقيادة السياسية أثناء زيارتهم هذا المتحف؟ وهل من الخطأ أن تكون الزهور زينة وبهجة لأي احتفال حضاري؟ وهل نعيب على أنفسنا تسويق تراثنا في كتيّب جميل تدفع كلفه وكلف الاحتفالات والمشروعات الكبرى حتى الزهور مؤسسات خاصة ومصارف تدرك معنى الاستثمار في الثقافة ونتائجه الإيجابية؟ هل هذا خطأ؟
حين زار قائد البحرية الامبراطورية البريطانية الجنرال غرانت كايير البحرين في العام 1820م وقابل الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة والشيخ سلمان بن أحمد آل خليفة في قلعة الرفاع لتوقيع اتفاق 1820م للسلم مع البحرين، كان المدهش في كل الحدث للجنرال أن الشيخ أعد طاولة للغداء للوفد البريطاني وجهزها بالأطباق والشوك والسكاكين، فهل من الخطأ مرة أخرى بعد 188 عاما أن يكون هناك صالون في المتحف أو باقة ورد لاستقبال كبار الشخصيات؟
نعم، هناك حاجة إلى هيئة مستقلة للثقافة والتراث الوطني، ونعم لأن هذا ليس مطلبا جديدا وليس لـ «تهيئة فارقة وخلع شرعي»، هذا الطلب وهذا الأمل يراود الكثيرين منذ أعوام؛ لأننا ندرك قبل أي شيء أن للثقافة فضاءاتٍ أكبرَ من أن تقيّدها الرسميات وأن الثقافة لا يمكن أن تكون مطالبة بالإبداع على حين تكون تابعة لجهاز دعائي إعلامي. أنا أتفق معك وأتمنى أن نعمل جميعا من أجل «هيئة متميزة فاعلة ومرحلة جديدة من العمل المؤسسي العام»، وأودّ أن أوجّه دعوة لكل المهتمين بالشأن الثقافي والتراث والآثار لعقد لقاء مع المسئولين في قطاع الثقافة والتراث الوطني نتائجه ستكون أكثر إيجابية من هذه المقالات، وإلى ذلك الحين أختلف معك في الرأي.
إقرأ أيضا لـ "عيسى أمين"العدد 1948 - السبت 05 يناير 2008م الموافق 26 ذي الحجة 1428هـ