تتابعُ «إسرائيل» الحرب الحقيقية على غزة، برا وبحرا وجوا، معلنة أن هدفها الاستراتيجي هو إسقاط نظام «حماس» في القطاع، فيما وجّهت ضربة جديدة إلى السلطة الفلسطينية بإعلان عزمها على بناء 740 وحدة سكنية جديدة في القدس والضفة، وذلك في وقتٍ متزامن مع استئناف محادثات الحل النهائي بين الجانبين.
أما رئيس السلطة الفلسطينية، فإنه لا يملك إلا التساؤل عن السبب الكامن وراء هذا النشاط الاستيطاني المحموم، مناشدا المجتمع الدولي كي يتدخل، ولكنه يعرف أن المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه الإدارة الأميركية، لا يملك الضغط على «إسرائيل» ليمنعها من ذلك، الأمر الذي يدل على أن المفاوضات النهائية القادمة لن تستطيع أن تحقق للفلسطينيين أي مكسب، لأنها تملك مواقع الاستيطان والجدار الفاصل ومصادر المياه، ولا يملك الفلسطينيون في السلطة أية قوة ضاغطة في الحل الذي يحقق لهم أهدافهم الاستراتيجية التحريرية، ولاسيما أن الشعب الفلسطيني عاش الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن باب الحوار مسدود.
إننا نخشى أن يتحول الموقف الفلسطيني إلى موقف مستضعف لا يملك أية قوة عربية أو دولية مساندة، لأن المجتمع الدولي، بقيادة أميركا، يعمل على تحقيق الاستراتيجية الاسرائيلية من دون أن يحقق شيئا لفلسطين، وهذا ما ينبغي للشعب الفلسطيني أن يحذر منه، ويحاسب المسئولين على طريقتهم في إدارة المسألة التي تعيش في قبضة المتاهات السياسية والوقت الضائع.
سيطرة إسرائيلية مطلقة على الإدارة الأميركية
إن المشكلة لدى الرئيس بوش، هي تغليب المصالح الإسرائيلية على المصالح الأميركية في شئون المنطقة وقضاياها وأزماتها السياسية، لأن الإدارة الأميركية تخضع للمحافظين الجدد وللفريق الصهيوني الأميركي الذين يستخدمون الرئيس الأميركي في الضغط على الشعب الفلسطيني تارة، باتهام مقاومته التحريرية بالإرهاب، وطورا من خلال خداعه بالتلويح بالدولة الفلسطينية التي تحاصرها المستوطنات الكبرى والصغرى والجدار العنصري، من دون أن يقوم بأية مبادرة للضغط القوي على حليفته اليهودية لمنعها من ذلك، باعتبار أن ما تقوم به سيغلق على الفلسطينيين أبواب الدولة القابلة للحياة.
ولعل الدراسة السياسية الدقيقة لمؤتمر أنابوليس تدل على ذلك، وعلى أن هذا المؤتمر لم يحقق للشعب الفلسطيني شيئا، بل شجع الصهاينة على استكمال خطتهم في بناء مستوطنات جديدة، مع تأكيد بعض مسئوليهم أن أميركا لا تملك أن تمنع ما يقومون به، لأن «إسرائيل» هي التي تحكم الإدارة الأميركية، وليس العكس.
وهذا ما ينبغي للسلطة الفلسطينية أن تفهمه من خلال السلوك الإسرائيلي الرسمي الذي يستغل المفاوضات معها من أجل اللعب على عنصر الوقت من جهة، والتظاهر بأن «إسرائيل» تعمل من أجل السلام، ولكن من دون تقديم أي شيء إلا في جزئيات الأمور، بعيدا عن القضايا الأساسية من جهة ثانية.
أميركا تنتهك حقوق الإنسان
وعلى خط آخر في المشهد الأميركي، نرصد تجاهل الإدارة الأميركية للكثير من التحذيرات خلال السنتين الأخيرتين بشأن عمل الشركات الأمنية الخاصة في العراق، والتي تواصل عملها من دون رقيب أو حسيب، فتقتل المدنيين العراقيين بطريقة عشوائية، حتى أنها قتلت 17 مدنيا عراقيا في سبتمبر/ أيلول الماضي، ولم تحرك وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتين ساكنا أمام ذلك، لأن الإدارة لا تجد في قتل المدنيين العراقيين أية مشكلة مادامت هذه الشركات تحمي الجنود الأميركيين، علما أن قوات الاحتلال لم تستجب للحكومة العراقية في مطالبتها بإلغاء تعاقدها مع هذه الشركات.
وليس هذا بدعا من الأسلوب الأميركي في عدم احترام المدنيين في المناطق المحتلة الذي يلتقي مع الأسلوب الإسرائيلي في فلسطين، أو مع أسلوب جنودها في قصف الآمنين الأبرياء في أفغانستان، لأن الحرب الأميركية لا تحترم حقوق الإنسان ما دامت تحقق أهدافها بشكل مباشر أو غير مباشر.
باكستان... الفوضى المميتة
وهذا هو الذي نراه في البلدان التي تدفعها أميركا إلى الانخراط فيما تسميه معاركها ضد الإرهاب، ومن خلال عملائها الذين توظفهم لمراقبة شعوبهم، ومحاصرة هذه الشعوب وتقييد حرياتها، وتزوير انتخاباتها بالوسائل القمعية والمخابراتية، كما هو الحال في باكستان، أو بإثارة الفوضى التي تتنقل من بلد إلى بلد في مناطق الفقراء والمستضعفين، كما في أفغانستان وباكستان، التي لا تلبث أن تتحول إلى فوضى مميتة وتفجيرات وحشية يذهب ضحيتها الناس، ويسقط في خضمها واقع سياسي بكامله، كما حصل في باكستان باغتيال رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو وعدد من مناصريها.
إنّنا لا نجد موقعا للتفاؤل بواقعية سياسية أميركية، وبتحرك أميركي لبدء معالجة قضايا المنطقة وإحلال السلام والاستقرار فيها.
ومن جانب آخر، فإنَّنا نلاحظ في متابعة الأوضاع الداخلية في أكثر من بلد عربي أو إسلامي، أن الشعوب تفقد حريتها في التعبير عن مطالبها وحاجاتها واعتراضاتها على السياسة المتبعة، ولاسيما في التضييق على التظاهر السلمي، وفي مواجهة القضايا الحيوية على مستوى الأوضاع القانونية الظالمة، أو القضائية المنحرفة، الأمر الذي يشعر معه المراقبون في الداخل والخارج، بأن هذه الحكومات المسيطرة تخاف من غضبة شعوبها، حتى لو كانت تطالب بالعدالة والمساواة، وترفض انحرافات الحاكم، وربما تلجأ بعض الأنظمة إلى إطلاق الرصاص الذي قد يسقط فيه ضحايا.
ونحن نقول لهؤلاء، إن العالم الغربي الذي تحاول حكوماتكم أن تكون على مثاله، يحترم حكامه شعوبهم، بل إنهم يخافون منها، لأن الشعب - من خلال تداول السلطة - قد يُسقط حكامه ويستبدلهم بغيرهم. أما في بلادنا، فإن الشعب يخاف من حكامه بفعل الاعتقالات التعسفية أو الضغوط السياسية، كما أن الحكام يصرون على سياساتهم في الحكم حتى لو عارضهم الشعب بأكمله.
لبنان: اجتهادات قانونية متباينة
أما لبنان، فإنَّ الباحثين يلاحظون أنَّ غالبية السياسيين الذين لايزالون يتصرفون في شئون البلد ويديرون أزماته، هم من أولئك الذين عاشوا الفشل الفظيع في تجاربهم السابقة، في العبث بدماء الناس على مستوى المجازر، أو باقتصادهم على مستوى السرقات للمال العام؛ ولذلك لم يستطع الوطن أن يرتفع إلى مستوى الحلول الواقعية التي تصنع للمواطن سياسة جديدة منفتحة على مصالحه الحيوية وقضاياه الاستراتيجية، الأمر الذي جعله يتخبط في مشكلاته، ويعاني في فقره، ويبقى مختنقا في أزماته.
وهذا ما نواجهه في الأزمة الجديدة التي تأخذ عنوان الاستحقاق الرئاسي، إذ يختلف رجال القانون في شرعية هذا القرار أو ذاك، والسياسيون في هذه الحكومة أو تلك، مما يختلط فيه الأمر على الشعب في نظرته إلى الواقع، في غياب مجلس دستوري للدولة يضبط حركة الحكم والحاكمين، ويمنع من التلاعب بمصير البلد ودستوره.
إن البلد بحاجة إلى جيل جديد ودم جديد لم يتلوث بالوحول التي يغرق فيها الواقع السياسي، ويتحرك بها الذين لايزالون يدمنون إثارة المشكلات وإسقاط الوطن لحساب أوضاعهم الشخصية أو الطائفية؛ وهذا ما ندعو إليه الشباب الذي يعيش في ضوء الشمس ولا يتخبط في عتمات الظلام.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1946 - الخميس 03 يناير 2008م الموافق 24 ذي الحجة 1428هـ