شكلت الأعمال التجارية أحيانا عاملا مساعدا محفزا للاندماج الثقافي وأثبتت قدرتها على أن يكون لها أثر معمق على المجتمعات المتنافرة دينيا وثقافيا. عموما، أنتجت التفاعلات الناتجة عن الاتصالات التجارية نتائج إيجابية على المدى البعيد وأدت إلى تفهم أفضل وأحيانا إلى قبول الثقافات والعادات والتقاليد الأجنبية.
ويثبت نجاح المشروعات المشتركة في ربط العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية أثناء خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مثل شراكات خطوط KLM ودلتا إير الجوية، احتمالاتها الإيجابية بين الشعوب التي تفكر بطرق متماثلة. لقد عملت هذه الأنواع من المشروعات المشتركة على تقوية الروابط الموجودة أصلا بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وأعطت كذلك دفعة أقوى لحلف الناتو، الذي ساهم في تراجع التهديدات الشيوعية المحلية في عدد من الدول الأوروبية الغربية، بما فيها فرنسا وإيطاليا. وعلى رغم أن الناتو كان بالدرجة الأولى عسكريا ومناهضا للسوفيات فقد تم التأكيد أحيانا أنه دعم كذلك القيم المشتركة والتقاليد الثقافية بين الدول الأعضاء إضافة إلى التأثير العقائدي للولايات المتحدة.
لعبت المشروعات الصينية الأميركية المشتركة أخيرا وبمضمون أكثر عداء دورا رئيسيا في تعديل خلافات عقائدية طويلة الأمد بين القوتين العظميين، مشجعة علاقات متجددة ترتكز على المصالح المشتركة (التجارة الحرة ونجاح الاقتصاد العالمي). وعلى سبيل المثال، كانت شركات مثل وول مارت في مقدمة هذا التوجه الجيوبوليتيكي، مقدمة أسواقا جاهزة للمنتجات والبضائع الصينية، وفي الوقت نفسه أثرت على الموقف التجاري للصين. لم تساعد الصين على دخول أسواق أجنبية جديدة فحسب، وإنما استفاد المستهلك الأميركي من البضائع الصينية الأقل كلفة.
هناك أيضا أثر يجري تجاهله أحيانا لهذه المشروعات المشتركة، وهو التأثير الذي كان لها، ولايزال، على مجتمعات الطرفين. من حيث الجوهر تعتبر هذه وسيلة أخرى للدبلوماسية والعلاقات الجيدة. طبعا، لا تستطيع المشروعات المشتركة بحد ذاتها أن تضفي صفة الإنسانية على «الآخر» وأن تساهم في رأب الصدوع السياسية عندما تكون المصالح الاقتصادية المهمة عرضة للخطر.
على سبيل المثال، على رغم أن الديناميات التحتية بين دول مجلس التعاون الخليجي والغرب (أوروبا الغربية والولايات المتحدة) كانت مختلفة جدا عن تلك في العلاقات الأوروبية الغربية والأميركية، فإن المشروعات المشتركة بين الدول الغربية ودول مجلس التعاون الخليجي أعطتها حصة مهمة في ازدهار اقتصاد أوروبا والولايات المتحدة. وحصل ذلك بالدرجة الأولى عبر استثمارات مجلس التعاون الخليجي المباشرة وغير المباشرة في كبريات المؤسسات الاقتصادية على الجانبين. ويتساوى الازدهار الاقتصادي والاستقرار في الغرب إذا مع عائدات منظمة ومفيدة لاستثمارات دول مجلس التعاون الخليجي.
ويندمج رأس المال المحلي أحيانا، في المشروعات المشتركة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، مع الخبرة والمعرفة التكنولوجية الأجنبية. ومن الأمثلة على ذلك الصناعات الطبية، إذ تقوم مراكز مرموقة مثل عيادة كليفلاند وعيادة مايو وجونز هوبكنز وهارفرد وغيرها بالانخراط في شراكات مع دول مجلس التعاون الخليجي وفتح مراكز طبية محليا.
ومن الأمثلة البارزة كذلك على المشروعات المشتركة الناجحة المشروعات الأكاديمية، إذ دخلت جامعات أردنية مع أخرى من دول مجلس التعاون الخليجي في اتفاقات لتبادل الخبرات مع مؤسسات من الولايات المتحدة وأوروبا في التعليم العالي.
واستثمرت الجامعات الأميركية بقوة في المشروعات المشتركة في الشرق الأوسط، ولم توجد قنوات للأعمال فقط وإنما أوجدت تجارب علمية مشتركة للمجتمعات الأكاديمية الغربية والشرق أوسطية كذلك. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك الشراكة بين مؤسسة قطر وكلية الآداب في جامعة فرجينيا كومنولث، إذ يقدم هذا المشروع المشترك فرصة نادرة لطلبة الخليج لدراسة التوجهات الغربية في التصميم والموضة من دون الحاجة إلى مغادرة بلدانهم.
ويعمل مشروع فرجينيا كومنولث مع مؤسسة قطر، وغيرها من المشروعات المشتركة المماثلة مع مراكز اللغات في الشرق الأوسط على إيجاد مجالات تخصص تكون في غياب ذلك غير متوافرة للطلبة المحليين، وخصوصا في مجالات تتواجد فيها الكثير من النساء، مثل الفنون الرفيعة وديكور المسرح وتصميم الموضة والتمريض. ولهذه الفرص أهمية خاصة فيما يتعلق بتمكين المرأة ونمو مجتمع مدني نشط وتقدمي، وهما من دون شك عنصران مهمان يؤثران على تأسيس العملية الديمقراطية.
وعلى رغم أن هذه العملية للسبب والنتيجة قد لا تبدو ظاهرة أو توفر الإمكانات لمكاسب قصيرة الأمد، فإن القيمة الاستراتيجية بعيدة الأمد للمشروعات المشتركة تعود بالفائدة على كل من الدول المشاركة. المشروعات المشتركة وحدها لا تحل الخلافات الاستراتيجية والسياسية المعقدة ولكنها تساعد على تعزيز التعاون، حيث توجد العزيمة السياسية.
ومن الأمثلة على ذلك، السياسات التي اتبعتها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي عملت بجد لتصبح مركزا ماليا دوليا بينما تحاول الإبحار في بيئة إقليمية صعبة. لقد أتى هذا التركيز على الأعمال التجارية ثماره، كما هو واضح من ظاهرة دبي، والذي نتجت عنه زيادة في الاستثمارات الخارجية المباشرة وانتقال الكثير من الشركات والأفراد من الغرب إلى دبي. لقد أوجدت هذه العلاقات الاقتصادية روابط جديدة بين دولة الإمارات العربية المتحدة وشركاء غربيين وعملت على بناء حسن نية ومنبر للتواصل الدائم.
يمكن حتى في العلاقات الأميركية الإيرانية المضطربة أن توفر المشروعات التجارية المشتركة نافذة صغيرة من الفرص، لو لم تتدخل العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، لرأب الخلافات العقائدية والسياسية ومشاركة الأفراد من كلا الجانبين. توفر المعاملات التجارية فرصة لاتصالات بشرية وتعاون اقتصادي، على رغم انعدام العزيمة السياسية للمشاركة في حوار حقيقي بين الدولتين.
وعلى رغم أن المشروعات المشتركة لا تشكل علاجا سريعا يشفي من جميع القضايا السياسية والاجتماعية المعقدة، فإنه ثبت أنها تفتح الأبواب بين الثقافات وتخلق شراكات إنسانية يمكن أن تكون لها آثار جانبية على العلاقات بين الدول، حتى تلك الدول المتنازعة، وحتى على المدى البعيد.
* أميركية أردنية الأصل أقامت وعملت في دول متعددة في الشرق الأوسط وتتخصص في قضايا الشرق الأوسط والقانون الإسلامي، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1946 - الخميس 03 يناير 2008م الموافق 24 ذي الحجة 1428هـ