في بيان أصدرته وزارات الدفاع والداخلية والصحة العراقية أوردت فيه معلومات عن حصيلة القتلى في العام 2007 جاء فيه أن مجموع ضحايا العنف في السنة الماضية بلغ أكثر من 17732 مقابل أكثر من 13827 في العام السابق 2006. فالنتيجة العامة كانت مرتفعة وأكثر من 4 آلاف ضحية.
المقارنة بين السنتين تكشف الكثير من خفايا صورة تحتاج إلى فترة زمنية لتوضيح معالمها وزواياها. فالوزارات المعنية ذكرت أن ضحايا السكان المدنيين ارتفع إلى أكثر من 16 ألفا مقابل أكثر من 12 ألفا في العام 2006. كذلك ارتفع قتلى عناصر الشرطة من 1224 في العام 2006 إلى أكثر من 1300 في العام 2007. بينما انخفض قتلى الجيش العراقي من 603 جنود في العام 2006 إلى 432 جنديا في العام 2007.
الأرقام متقاربة نسبيا على رغم الارتفاع المحدود في القطاع المدني (أطفال، نساء، شيوخ، شباب). وهذا التقارب (أكثر من ألف ضحية عراقية شهريا) يشير إلى عدم دقة نظرية الاحتلال الذي روّج لمقولة تراجع مستوى العنف في العراق. فالاحتلال الأميركي أطلق في الأشهر الأخيرة موجة من المعلومات الخاطئة بشأن ضحايا العنف بقصد تضليل الرأي العام ومنع المعارضة (الحزب الديمقراطي) الاستفادة منها في معركته الإعلامية التي تركز على ضرورة سحب القوات بأسرع وقت ممكن.
الحزب الجمهوري لاشك استفاد نسبيا في معركته الإعلامية من ترويج نظرية تراجع العنف وبدء نجاح الخطة الأمنية التي أعلنها الرئيس جورج بوش مطلع العام 2007 التي قضت بزيادة عدد القوات 30 ألفا. كذلك استفاد الرئيس بوش من موجة تضليل المعلومات لتأكيد مقولته الشهيرة إن الولايات المتحدة انتصرت ولم تفشل وإنها بحاجة إلى مزيد من الوقت لإقناع العالم والشارع الأميركي والجمهور الانتخابي بأن قرار الحرب كان صحيحا وها هو بدأ يثمر ويعطي مردوده الايجابي.
الحزب الديمقراطي بدوره تضرر إعلاميا من ترويج مقولة تراجع العنف في العراق بدليل أنه اخذ بتقليل رهانه على موضوعة سحب القوات باعتبار أن الاحتلال بدأ ينجح وأخذ يفرض الأمن ويبسط سيادة الدولة تمهيدا لتسليم مقاليد السلطة إلى حكومة وطنية مشتركة.
منذ سنة تقريبا كان شعار الحزب الديمقراطي المركزي يتلخص في فكرة واحدة تختزل برنامجه في السياسة الخارجية وهو رفض الحرب والمطالبة بإنهاء الاحتلال والعمل على إخراج القوات بأسرع وقت. الآن وبعد أن اكتسحت نظرية تراجع العنف في العراق الإعلام الأميركي بدأ قادة الحزب الديمقراطي يبحثون عن شعار مركزي آخر يعوض تلك الخسائر السياسية التي نجمت من نجاح خطة الرئيس الأمنية في ضبط الأمن وبسط السيطرة.
ولكن ما الصحيح؟ وأين الخطأ؟ هل تراجع العنف فعلا؟ وإذا تراجع فمتى بدأ الأمر وكيف؟
مقولة تراجع العنف صحيحة وخاطئة. فهي صحيحة إذا كانت تتعلق بأرقام قتلى الجيش الأميركي، وهي خاطئة إذا كانت تتعلق بضحايا الشعب العراقي. المؤشرات تؤكد أن خسائر الاحتلال تضاعفت في النصف الأول من العام 2007 حين قررت واشنطن زيادة قواتها ثم انخفضت فجأة في النصف الثاني من العام الماضي حين بدأت اللقاءات «الفنية» و «التقنية» مع الجانب الإيراني الذي يبدو أنه ضَمِنَ لإدارة بوش ما أسماه «الانسحاب المشرّف». وكانت النتيجة العامة بين حاصل الارتفاع في النصف الأول وحاصل الهبوط في النصف الثاني ترويج مقولة تراجع العنف.
هذا جانب من الصورة. الجانب الآخر يشير إلى ارتفاع ضحايا العنف من الشعب العراقي من قوى مدنية أو عسكرية أو هيئات وجمعيات ومنظمات تابعة لسلطة الاحتلال أو مستقلة عنه. والأرقام التي ذكرها بيان وزارات الدفاع والداخلية والصحة بشأن أعداد الضحايا ليست دقيقة؛ لأنها تقتصر على الإحصاءات الرسمية المعلنة في المستشفيات والمراكز الصحية، بينما الواقع يشير إلى أضعاف مضاعفة وخصوصا في المناطق التي يصعب على الجهات المحايدة الوصول إليها (محافظات الجنوب والغرب ذات اللون الطائفي والمذهبي الواحد).
المقولة في محصلتها العامة غير صحيحة. العنف تراجع ضد قوات الاحتلال في السنة الماضية مقابل نموه ضد العراقيين بمختلف أطيافهم. والجانب الأخير من الصورة غير مهم كما يبدو لقوات الاحتلال مادام تراجع قتلى الجيش الأميركي يشكل الهاجس الأساس لإدارة بوش التي تخوض معركة قاسية ضد الحزب الديمقراطي.
سر النجاح
يبقى السؤال: ما «سر» تراجع قتلى الجيش الأميركي مقابل ارتفاع ضحايا العنف الأهلي في العراق؟
هناك الكثير من القراءات وكلها تتجاوز ادعاءات الإدارة أن خطة الرئيس بوش الأمنية كانت صائبة وأعطت مردودها الايجابي. هذا الادعاء غير صحيح باعتبار أن قتلى الاحتلال في النصف الأول من 2007 ارتفع عن العام السابق وقبله أيضا، ثم عاد ليهبط بسرعة لافتة منذ نهاية مايو/ أيار 2007. تراجع قتلى الجيش الأميركي بدأ قبل ستة أشهر وتحديدا بعد إعلان نجاح اللقاءات مع الجانب الإيراني في بغداد بإشراف حكومة نوري المالكي المدعومة من طهران ودمشق.
خلال الاجتماعات التي اقتصرت على الخبراء في الجانبين «الفني» و «التقني» لم تتسرب الكثير من المعلومات إذ اكتفت التعليقات بإطلاق تصريحات عامة وغامضة. ولكن المشهد السياسي الذي ظهر خلال النصف الثاني من العام 2007 أشار إلى مجموعة نقاط يمكن أن تساعد على ترسيم زوايا الصورة. إدارة واشنطن مثلا أجلت لفترة وجيزة مسألة العقوبات لاختبار مدى صدق الجانب الإيراني. وطهران لمّحت بدورها إلى توقيف مشروع التخصيب أو تجميده إلى فترة نهاية السنة الجارية. إدارة بوش وافقت على تسليم بعض محافظات الجنوب لسلطات الأمن العراقية مقابل إعلان مقتدى الصدر تجميد ميليشيات «جيش المهدي» بداعي إعادة التأهيل والتنظيم لفترة ستة أشهر مع احتمال تمديد المهلة.
هذه الوقائع السياسية/ الميدانية حصلت خلال الفترة الفاصلة بين نهاية مايو ونهاية ديسمبر/ كانون الأول 2007. واشنطن أجّلت مناقشة العقوبات مع الدول الكبرى إلى نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي حتى انتهت بالضربة القاضية حين خرج تقرير المخابرات (16 جهازا) يؤكد توقف الجانب العسكري من المشروع النووي في 2003. وواشنطن أيضا بالتكافل والتضامن مع بريطانيا انسحبت من البصرة والكثير من المواقع في الجنوب تمهيدا لإعادة تجميع القوات في فترة لاحقة.
في المقابل تراجعت أعمال العنف في مختلف المناطق التي يسيطر عليها جيش مقتدى الصدر مقابل اتساع شبكة المواجهة الدموية بين تنظيم «القاعدة» ومجالس «الصحوة» في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وبعض مناطق ديالى.
مقولة تراجع العنف في العراق يجب أن تؤخذ من زوايا مختلفة تتجاوز ادعاء إدارة الرئيس بوش أن خطته الأمنية نجحت وبدأت تؤتي ثمارها. فالمقولة غير دقيقة وفيها جانب يعتمد على معلومات غير صحيحة لخداع الرأي العام الأميركي والجمهور الانتخابي. فالتراجع حصل في النصف الثاني من 2007 واقتصر على القوات الأميركية تحت سقف توافقات سياسية وخدمات ميدانية تم التفاهم عليها في اللقاءات المتتالية التي جرت مع الجانب الإيراني في بغداد بإشراف حكومة المالكي. مقابل ذلك امتد العنف واتسعت رقعته في مناطق أخرى شهدت سلسلة ارتفاعات في أرقام الضحايا المدنية... وهذا ما أشار إليه بحياء بيان وزارات الدفاع والداخلية والصحة العراقية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1945 - الأربعاء 02 يناير 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1428هـ