لا تزال صورة السيّدة المغدورة بي نظير بوتو حاضرة في ذهني وأنا أسترجع مشاهد فيلم «إليزابيث: العصر الذهبيّ» (Elizabeth: The Golden Age)، ولا أنكر أنّ أحد دوافعي الأساسية لمشاهدة الفيلم هو تأثري بما آل إليه حال السياسيّة الباكستانيّة (بوتو) التي مثلت إليزابيث أخرى ولكن في عصر حاضر مليء بالدمويّة والمفخخات.
السيّدة بوتو تزعّمت حزب الشعب الباكستاني في بلدٍ - ككلّ البلدان - «يُشخصن» القضايا، وهو مبتلى دينيا ودنيويا بداء «القيادة الوراثيّة» - بحسب الباحث العراقي عادل رؤوف - إلى حدّ ميئوس منه. ولم تكن بوتو يوما تمثل خروجا فرديا عن منظومة وراثة «الزعماء - البشر» سوى أنها امرأة. وها هي أشلاؤها تتبعثر على الأرض، ودماؤها تتناثر مع بقيّة الدماء في قصّة الصراع السياسيّ الذي لا يوصل في النهاية إلى شيء.
فيلم «إليزابيث: العصر الذهبيّ» - الذي افتتح رسميا في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2007 بالولايات المتحدة ويشاهَد في البحرين حاليا - بمثابة الجزء الثاني لفيلم سابق قامت بدور البطولة فيه أيضا النجمة كيت بلانشيت. وكما يروي الفيلم السابق «إليزابيث» حكاية السنوات الحرجة جدا في حياة الملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى، والظروف العاصفة التي كانت تحيط بالمملكة البريطانيّة، فإن فيلم «العصر الذهبي» وبعد عشر سنوات يستكمل جانبا من تلك السيرة.
تسمية الفيلم الذي أخرجه الهندي الأصل شاكير كابور باسم «إليزابيث» (أليصابات، أليشايع بالعبرية) يحمل دلالة دينية في الفكر المسيحيّ، وقيد «العصر الذهبي» لم يكن معبّرا تماما إذ استولت التفاصيل على حياة الملك الإنجليزية بشكل أساسيّ. كان مسرح الفيلم نهاية القرن السادس عشر، وتحديدا العام 1585 حيث اعتلت الملكة إليزابيث الأولى عرش إنجلترا منذ سبعة وعشرين عاما، بعد وفاة شقيقتها الملكة ماري الأولى التي كانت زوجة لفيليب الثاني ملك إسبانيا. كانت إنجلترا وشعبها آنذاك منقسمين بين البروتستانتية التي تعتنقها إليزابيث، والكاثوليكية التي دعمها الملك الإسباني، حينها كانت إسبانيا بأسطولها البحري الضخم أقوى قوّة ضاربة في أوروبا، وهكذا فإن فيليب (جوردي مولا) يخطّط للقضاء على إليزابيث من خلال مؤامرات دسّ السمّ لها، أو الإطاحة بها وتتويج ابنة عمّها الكاثوليكية ماري ملكة أسكتلندا (سامانثا مورتون) على عرش إنجلترا.
على رغم أن الفيلم يستعرض الدسائس والعداء والحرب بين ملك أسبانيا والملكة الإنجليزية فإنه يركّز بشكل كبير على شخصية الملكة، وكيف مرّت بعلاقة غرامية بالمغامر والتر رالي (كليف أوين)، وكيف ضحّت بحياتها الخاصّة من أجل مملكة إنجلترا لينعم شعبها بالهدوء. يُظهر الفيلم إليزابيث بشخصيّة قويّة مع لحظات من الضعف البشري أفصحت عنها حينما أمرت والتر بكتمام سرّ القبلة وحين لم تفلح في ثني المستشار والقضاة عن إعدام ابنة عمّها الخائنة. وهنا لابدّ من ترك مساحة فراغ لما يمكن أن يعتبر قفزا على التاريخ والحقائق، ممّا يجعل اعتماد الأفلام واقعا تاريخيا خطأ كبيرا.
النجمة بلانشيت أكدت في حوار معها أن دورها في الجزء الأول من الفيلم يختلف عن دورها في الجزء الثاني، «فبعد عشرة أعوام على قيامي بالدور في الفيلم الأصلي بتّ أكثر نضجا، وتعمّقت أكثر في شخصية الملكة إليزابيث، فجاء الدور الثاني مختلفا عن السابق؛ لأنه يتناول أسطورة الأسطول الإسباني والمصاعب السياسية التي واجهت إليزابيث».
ويبدو أن النجمة تتمتع بقدر عال من الاهتمام والفطنة أهّلتها لتجسيد دور الملكة، فحينما سُئلت عن التمثيل مع براد بيت - الوسيم لم تنفِ رغبتها في ذلك، ولكنها استدركت بأن «وسائل الإعلام تولي انتباها كبيرا للمسائل الشخصية والتافهة مقارنة مع ما يحدث في العالم»، وأضافت «لا يهمّني الانشغال بتوافه الأمور»، وهو ما يعدّ طعنا ضمنيا فيما يمثله «بيت» قبالة ما أدّته هي من أدوار لم تجد الإعجاب المفترض. إذا نستطيع القول إن تجسيد شخصية الملكة إليزابيث الأولى يحتاج إلى ثبات ورصانة بحجم ثبات ورصانة شخصية بلانشيت، كما بدا من كلامها.
عكس الفيلم بطبيعة الحال طبيعة المعيشة التي تحياها الملكة وحاشيتها في القصر الملكيّ. فوصيفة الملكة (إليزابيث أيضا أو بيس) التي أدّت دورها الشابّة آبي كورنيش تقول عن تصوير الفيلم «في الأسبوع الأول من التصوير وبعد ارتداء مشدّ الخصر شعرت بتقييد، وأنه لا يمكنني التنفس بسهولة، لم تكن رئتاي على اتساعهما، انزعجت قليلا ولكني بدأت بالتفكير، يا إلهي هذه المرأة لديها واحد من أهم الوظائف في البلاط وتملك هذه الأزياء والمجوهرات الجميلة ومع ذلك لا يمكنها التنفس بسهولة، هناك نقص في الحريّة»، وهذا بالضبط ما جعل «بيس» تهرب إلى عالمها الخاصّ وتكوّن علاقة مع المغامر رالي لتطرد فور حملها من القصر، هي تلك الحريّة التي طالما حسدتها عليها الملكة إليزابيث التي لا تستطيع أن تغادر واقعها، فعليها أن تحمل صليب عرش إنجلترا حتى النهاية فداء لشعبها.
يعطي الفيلم للمشاهد بعض الصورة بأن واقع الملوك ليس بأيديهم، وأنهم يغبطون الناس الأحرار الذين يستطيعون فعل ما يشاءون، إذ إنهم يعيشون واقعا مملوءا بالدسائس والصراعات البينيّة، كما يوضح الفيلم كيف عانت أوروبا من الصراع الطبقيّ - العنصريّ - الدينيّ بين بعضها بعضا، ومع الآخر من العالم. ربما لن نجد في الفيلم «الأكشن» الذي رأيناه في أفلام مثل المحارب والقلب الشجاع، ولكننا لن نعدم أن نجد فيه جزءا من واقع أوروبا وواقع حياة الساسة. وتبقى نوعية هذه الأفلام على شحّتها بمثابة الإنعاش الدوري للسينما بين الحين والآخر بعدما تكاد تكون أغرقت بالتوافه والإثارة الرخيصة متمترسة بكثير من الأقنعة.
العدد 1945 - الأربعاء 02 يناير 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1428هـ